أعمدة

الشعر من أجل عالم أفضل!

19 يونيو 2020
19 يونيو 2020

غادة الأحمد

"الإنتروبيا والشعر" كتاب هام وطريف في موضوعه تتمازج فيه القوانين العلمية بالعلوم الإنسانية صدر ضمن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب للأديب الشاعر محمود نقشو. و«الإنتروبيا» كما ورد تعريفها في الباب الأول من الكتاب: هي كلمة يونانية تعني «التحوّل»، وهي التدهور الحتمي والثابت للمنظومات والمجتمع. وهو مفهوم وضعه القانون الثاني لعلم «الترموديناميك» الذي ينصّ على أنه «لكلٍّ من المادة والطاقة في الكون ميل إلى التطور نحو الفساد أو الاضطراب والعشوائية». والطاقة هي القدرة على فعل التغيير أو عمل شيء ما.. و«الترموديناميك» هو العلم الخاص بالطاقة، الذي يقول قانونه الأول (إن مخزون الطاقة في العالم ثابت لا يتغيّر)، أمّا القانون الثاني فيقول (أثناء تحوّل الطاقة من صورة إلى أخرى داخل منظومة مغلقة تكون الطاقة بعد التحوّل أقل من الطاقة قبل التحوّل) قياس هذا الفرق هو «الإنتروبيا». وهي أيضاً البناء الذي تقيس عليه الفوضى والفشل وعدم الانتظام وعدم الإنتاجية.

وهو ما يؤكده ويفسره «إسحق عظيموف» مؤلف كتاب «أفكار العلم العظيمة» الذي قال «الإنتروبيا هي المحصلة الكونية من الطاقة المبدّدة عشوائياً وغير القابلة للاستغلال أو الاسترجاع». ولعل فكرة الكتاب تنطلق من استعارة المفاهيم الفيزيائية بغية إجراء انزياح الحدود بين العلوم والأفكار لتأمل حالات ونظم غير فيزيائية، لندرك أن التبدد هو شكل من أشكال النهايات البطيئة الحصول لكنها متواصلة من دون توقف، فكل شيء يتوهج في مداه الزمني، ثم يتوجّه بحتمية صوب الفناء على نحو تلقائي وبوتائر مختلفة. هذه الوتائر تزداد على نحو عشوائي خلال الزمن، فإذا علمنا أن جميع نظم الحياة تخضع لفكرة الإنتروبيا، وأولها البيولوجية، ونظم المعلومات...إلخ فإن الإنتروبيا على هذا الأساس هي (السلطة الخفية التي تسيّر الوجود). وفي تفسيره لمقاومة الإنسان لهذه السلطة الخفية يرى الباحث: أن الإنسان قد كابد منذ ظهوره على الأرض فكرة الفناء والموت، وقد شغلته فكرة الخلود والبقاء الأبدي، ودفعته إلى اجتراح المآثر وتأسيس الحضارات، وابتكار الأعمال الأدبية والفنية، والتشبث بموضوعة (الحب) التي تعدّ المضاد الأساس لسلطة «الإنتروبيا» ليخفف من وتيرة التبدد العشوائي في عالمه الذي يتمنى له البقاء، لكنّ الموت يتربّص به، والفناء يسري في جنباته كل آونة وحين، فينغمر في تعلّقات وأنواع من الشغف والإنجازات الإبداعية والعلمية والفكرية، لعله يحتال على التبدد والفناء المحتوم. وتعليل ذلك في نظر الكاتب أن ما نفعله في الفن هو أننا نعيد تشكيل الظلال المتماهية لوجودنا الحائل، وبالتالي فالفن أكرم أشكال فعل الخلق الإنساني الذي يسعى حتماً إلى تحقيق الكمال الوجودي.

ومن حديث الباحث على عموم أنواع الفن كمقاوم لسلطة «الإنتروبيا» إلى حديث عن فن الشعر، الذي يرى أنه طاقة هائلة جبارة قادرة على هدم العالم وإعادة بنائه من جديد.

يرى الباحث: أن الكون طاقة، وكذلك الألوان والنغمات والصورة والإنسان والأفكار والمشاعر، ولأن الكلمة طاقة فإن الشاعر يستطيع أن يشكّل بكلمة طاقة المكان أو الزمان. هذه الطاقة الإيجابية التي تساهم في تحويل خلايا الجسد إلى ذبذبات قادرة على زيادة درجة المناعة في أجسادنا، وتفتح كل الأبواب الموصودة. كما أشار الباحث إلى أن الإنسان سجّل عبر اللغة ملحمته على الأرض، كتب أفكاره ومعارفه وأخبار حروبه، دوّن أحزانه وأفراحه وأحلامه، كما دوّن نشوة انتصاراته وتاريخ هزائمه، وقد جاءت الملاحم القديمة عبر اللغة، وعبرها أيضاً جاءت أشعار العرب وأيامهم ومعلقاتهم العظيمة، وعبرها جاءت الأديان والمعتقدات، وجاء الفكر والفقه والفلسفة والعلوم والنقد والنثر، وكل عطاء حضاري كبير في زمن ما من التاريخ الإنساني. إذاً اللغة في ضوء ذلك : تفاعل ونظام وإبداع، والإبداعية خاصية كامنة في اللغة. واللغة مادة لإعادة تركيب العالم، وهذا الشعور يدهمنا بعد قراءة قصيدة رائعة، أو رواية جميلة، فنشعر وكأننا نفهم العالم أول مرة، أو كأننا ولدنا من جديد أو كأن الأشياء جميعها من حولنا تأخذ شكلها الصحيح من جديد. هي إذاً اللغة، وهو الشعر على رأس الفنون والآداب، المادة السحرية الدائمة لإعادة تشكيل وتعريف وتركيب العالم. وجاء الكاتب بشواهد شعرية من الشاعر الشريف الرضي ومن محمود درويش ليؤكد من خلالها كيف يمكن للشاعر بقصيدة بالغة التنظيم والترتيب والبنائية المتقنة أن يزيد من المضاد الأبدي (الشعر) على حساب الإنتروبيا ووحولها الجمّة.

ويؤكد الكاتب أن الشعر ضرورة لإعادة ترتيب العالم وانتظام الفوضى، كما أنه ضرورة إنسانية وليس المقصود هنا الشعر الرديء الذي تروجه وسائل الإعلام أو وسائل تواصل الفضاء المفتوح في الإنترنت. إنما الشعر الحقيقي الذي يتسم بسمة الخلود وما زالت هناك أصوات عربية حقيقية وعلامات بارزة في الشعر.

الإنتروبيا والشعر كتاب مكتنز بالفكر مهموم بالشعر ومشغول بقوانين الطبيعة يحسب لمؤلفه الجدة في الموضوع ليكون إضافة هامة وجديرة بالقراءة في مكتبتنا العربية.