Screen-Shot-2020-04-14-at-1.14.24-PM-1
Screen-Shot-2020-04-14-at-1.14.24-PM-1
أعمدة

نوافذ: حتى الأطفال يصرخون

16 يونيو 2020
16 يونيو 2020

أحمد بن سالم الفلاحي

يقال؛ أن الصراخ لغة العاجز، وكلما زاد الإنسان صراخه عبر عن ضعفه، وسقطت من بين يديه أهم الحلول، وفقد السيطرة عن قيادة الدفة، وإلى الهروب أقرب منه إلى المواجهة، فالواثق من نفسه لا يصرخ، والمتأكد من مرتكزاته ومنطلقاته لا يصرخ، فـ "واثق الخطوة يمشي ملكا" ولكن مع ذلك كله يبقى الصراخ أحد الوسائل المهمة إما للانتصار إلى الحق، وإما لدفع الباطل، وإما للإحساس بالظلم، ولذلك ففي أحلك المواقف نجد هناك من يصرخ، وفي ذروة المحنة نجد هناك من يصرخ، وفي حالة العجز التام؛ حيث الإرادة الإلهية؛ كالموت مثلا، نجد هناك من يصرخ، وفوق ذلك نجد هناك من ينصح بضرورة أن يبقى الصراخ عاليا، لأن هناك آذانا لا تصل إليها الكلمة الأولى، ولا الثانية، ولا الثالثة، فلا بد أن يتبعها صراخ ما، حتى تستجيب، ولأن هناك صدورا لا تحتمل أعباءها من الهموم والمآسي، فلا بد لها من أن تصرخ، وأن تذهب إلى الفضاءات البعيدة لتمارس صراخها بقوة فلعلها تتخلص من أدرانها المزعجة، وهذا ما ينصح به أيضا، لأن الكبت؛ كما تشير الحقائق الطبية؛ يولد معضلات نفسية خطيرة على الإنسان.

ولقد قرأت منذ زمن بعيد أن هناك شركة ما تؤجر المهمومين، والمحرومين، والمهوسين، غرفا مملوءة بالأواني قابلة للكسر، وما على هذا الذي يعاني من كل ذلك سوى الدخول إلى إحدى هذه الغرف، وتكسير كل ما بها، بصراخه وبلا تحفظ، فلعله بذلك يغتسل من كل ما يعاني به، ويخرج إلى المجتمع وقد تخلص من كل ما يعانيه، سواء من هموم نفسه، أو من تدافع الهموم التي يسقطها الآخرون عليه من غير حول منه ولا قوة. (حتى الأطفال يصرخون) .. يرى بعض علماء النفس، وبعض المتخصصين في الطب السلوكي – حسب ما قرأت – أن صراخ الأطفال ممارسة ميكانيكية بحتة؛ في الغالب؛ لدواع بيولوجية؛ غذاء، قضاء حاجة؛ ألم؛ ولكن يمكن للوسط الذي يعيش فيه أن يخلق فيه نفسا متمردة تمتهن الصراخ، منذ هذا العمر الطري، حتى آخر العمر، وهذه من أسوأ المُورّثات التي ينقلها الكبار إلى الصغار، حيث يفرخوا للمجتمع أفرادا من هذا النوع، تتجاذبهم العقد النفسية من كل جانب، فيغدون في المجتمع فئات لا تعرف إلا الصراخ باستمرار، وهي من الفئات المرشحة للعنف سواء اللفظي أو الجسدي، وهذه من إحدى مآسي المجتمعات الإنسانية، وهي لا تخلو منها كل المجتمعات الإنسانية على حد سواء، فلا علاقة لمغرب أو مشرق في ذلك، فالكل يتساوى في هذا المنزلق الإنساني الخطير.

ولكي نقيس مستوى الصراخ في المجتمع الإنساني؛ فبالإضافة إلى المخالطة اليومية مع الأفراد؛ علينا أن نشاهد أي من البرامج الحوارية التي تبثها التلفزة – مشرقا ومغربا – كما قلنا، وعليك؛ كمشاهد أن تحكم على كمية الصراخ الذي ينشأ بين المتحاورين، حتى ولو اقتصر الحوار على شخصيتين، وعلى نوعين مختلفين (ذكر/ أنثى) أو متشابهين، وإن اختلفت التخصصات أو اجتمعت، وإن اختلفت المسميات العلمية أو اتفقت، وإن اختلفت المراحل العمرية أو اقتربت، ستجد الصراخ هو سيد الموقف، والصارخ الأكبر هو المستأسد، ولا يستبعد مطلقا أن ينتقل المتحاوران، أو المتحاورون من الجلوس على الكراسي إلى الصعود على سطح الطاولة التي تفصلهم، وتكون الكراسي إحدى وسائل الهجوم على الطرف الآخر، وعليك كمشاهد أن تنتصر للصراخ، أو تغلق جهاز التلفاز وتختم وقتك الذي ضاع بين صراخ المتحاورين بالحوقلة. (حتى الأطفال يصرخون) .. كما قلت، يبدأ صراخ الأطفال على أنه فطرة، وهم في هذا السن معذورون، ولكن ما هو العذر الذي يمكن أن يغطي على منزلق الكبار وهم يصرخون ويصرخون؟