أفكار وآراء

سد النهضة.. بين الفرصة والتحدي !!

15 يونيو 2020
15 يونيو 2020

د. عبد الحميد الموافي -

إن الأنهار التي تنقل المياه إلى مسافات طويلة، تصل أحيانا إلى آلاف الكيلومترات، واتساع أحواضها، هي بمثابة شرايين الحياة للكثير من الدول والشعوب التي تعيش على ضفافها، وذلك بدرجات متفاوتة بالطبع وفق درجة اعتماد تلك الشعوب عليها كمصادر للمياه. وبالطبع ترتفع أهمية وقيمة تلك الأنهار وما تحمله من مياه، كلما زاد اعتماد هذه الدولة أو تلك عليها، وإلى حد أن تصبح تلك الأنهار ومياهها عنصرا أساسيا من عناصر الأمن القومي لتلك الدول.

وفي ظل تداخل وتقاطع مصالح الدول المشتركة أو المكونة لأحواض الأنهار الدولية أي التي تمر عبر أكثر من دولة فإن الدول المعنية في كل حوض سعت إلى التوصل إلى توافق فيما بينها، عبر اتفاقيات لتوزيع المياه ولتحديد قواعد وأسس الانتفاع المتبادل والمتوازن بالنهر، سواء في النقل البحري أو موارده السمكية أو المائية أو في توليد الطاقة الكهربائية، ومن ثم تحولت الأنهار الدولية إلى مرافق دولية تقوم بدور حيوي في تحقيق المصالح المشتركة بين الدول المشاركة في أحواضها، وكانت الدول الأوروبية هي الأسبق في هذا المجال، خاصة بالنسبة لنهري الراين والدانوب.

بالنسبة لنهر النيل الذي يمتد إلى نحو ستة آلاف كيلومتر، ويضم حوضه إحدى عشرة دولة هي مصر والسودان وأثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا وراوندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية واريتريا وجنوب السودان، فإنه ليس مصادفة أن تحرص مصر بشكل خاص، وهي والسودان تشكلان دولتي المصب، على تأمين وصول مياه النيل إليها، دوما وتحت كل الظروف وبشكل كاف دون عوائق، بالنظر إلى اعتمادها بنحو 95% على مياه النيل في الزراعة والري وكمصدر لمياه الشرب، ولم يبالغ هيرودوت عندما، قال: إن مصر «هبة النيل» كما لم يبالغ المرحوم الدكتور جمال حمدان عندما أكد على الدور الحيوي والبالغ التأثير للنيل في حياة المصريين، ودلالة تقديم القرابين إليه في عيد وفاء النيل حتى وقت ليس ببعيد، كما حرصت كل من المملكة المتحدة وإيطاليا على التوصل إلى اتفاقيات دولية لتأمين وصول مياه النيل إلى مصر مع التزام دول المنبع بعدم إقامة أية سدود على النهر يمكن أن تؤثر على حصة مصر من مياه النيل واحتفاظ مصر بحق الاعتراض على ذلك ومن ثم ضرورة التشاور معها والتوافق بشأن ما يمكن اتخاذه من إجراءات أو تشييده من منشآت على مجرى النيل أو روافده الأساسية ومنها النيل الأزرق الذي يمر بأثيوبيا ويوفر نحو 85 % من إيرادات النيل السنوية من المياه، ومن هذه المعاهدات والاتفاقيات بروتوكول روما في 15 أبريل 1891 بين بريطانيا وإيطاليا، واتفاقية أديس ابابا في مايو 1902 بين بريطانيا وأثيوبيا، واتفاقية لندن في 13 ديسمبر 1906 بين بريطانيا والكونغو واتفاقية روما في 1925 واتفاقية عام 1929، واتفاقية لندن في 23 نوفمبر 1934، واتفاقية عام 1953، واتفاقية 1959 بين مصر والسودان. وقد بلغ اهتمام مصر بمياه النيل أن مهندسي الري المصريين كانت لهم نقاط مراقبة وتتبع لحالة المياه في النهر على طول امتداده وفي نقاط إقامتها مصر على نفقتها وبالاتفاق مع الدول المعنية، من اجل التعاون مع تلك الدول للاستفادة بمياه النيل وتقديم أية مقترحات أو مساعدات في هذا المجال، وقد أزيلت تلك النقاط في عدد من دول الحوض لاعتبارات سياسية وفي ظل ما ظهر من خلافات أحيانا بين بعضها وبين مصر لأسباب متعددة. وكان ولا يزال من أبرزها التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا ومحاولة إسرائيل تقليب مواقف تلك الدول ضد مصر بوسائل مباشرة وغير مباشرة وهو أمر لا يزال مستمرا حتى الآن، ويقدم سد النهضة نموذجا واضحا في هذا المجال.

على أية حال فانه بالرغم من استقرار قواعد القانون الدولي، سواء الخاصة بالتعامل مع قضايا الحدود، أومع استغلال الأنهار الدولية في مجالات النقل البحري وغيرها، فان مشروع سد النهضة الأثيوبي، الذي تشيده أثيوبيا منذ عام 2012 والذي تعاونت معها فيه أطراف إقليمية ودولية في مقدمتها إسرائيل، يشكل على مدى العقد الأخير قضية بالغة الأهمية سواء لمصر أو لأثيوبيا أو لمستقبل العلاقات بين مصر والسودان كدولتي مصب وبين دول المنبع الأخرى.

لعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا: لعل من الحقائق شديدة الأهمية المتصلة بحوض النيل أن كمية المياه التي تهطل سنويا على كل من الهضبة الاستوائية والهضبة الأثيوبية، واللتين تشكلان معا أهم مصادر مياه النيل، تفوق كثيرا احتياجات دول الحوض، خاصة وان معظم تلك الدول يعتمد على الأمطار في الزراعة، وبينما تعتمد مصر على مياه النيل بنسبة 95% فإن السودان تعتمد على مياه النيل بنسبة 21%، وأوغندا تعتمد على مياه النيل بنسبة 15% وبوروندى بنسبة 5% وأثيوبيا بنسبة 2% والكونغو الديمقراطية بنسبة صفر في المائة، كما أن إيراد النهر من المياه يتجاوز سنويا 1670 مليار متر مكعب من المياه، تصل منها 84 مليار متر مكعب فقط من المياه إلى مصر والسودان وتبلغ حصة مصر المتفق عليها 55.5 مليار متر مكعب والسودان 18.5 مليار متر مكعب من المياه، وبالتالي فإن الواقع العملي هو إنه ليست هناك مشكلة في كميات المياه التي تهطل سنويا والقابلة للاستغلال، خاصة أن أثيوبيا على سبيل المثال لديها عدة انهار يمكن الاعتماد عليها في الري والزراعة. غير أن مشكلات الجفاف والحاجة للمياه لاستصلاح وزراعة ملايين الأفدنة الجديدة أو الإضافية، خاصة بعد اتجاه عدة دول عربية إلى الاستثمار الزراعي في أثيوبيا وبشكل غير مسبوق، تعبر في الواقع عن مشكلات في إدارة هذه الموارد المائية الكبيرة وفي كيفية الاستفادة الصحيحة والمناسبة منها. يضاف إلى ذلك أن العلاقات بين مصر وإفريقيا قد تأثرت بدرجة كبيرة، خلال فترة حكم الرئيس مبارك، والتي تم خلالها إهمال إفريقيا إلى حد كبير خاصة بعد تعرض الرئيس المصري الأسبق لمحاولة اغتيال في أديس ابابا عام 1998. ومن ثم فإن الصراع ليس حتميا بين مصر ودول حوض النيل بوجه عام وأثيوبيا بوجه خاص، إذا توفرت الإرادة السياسية الضرورية والكافية لإدارة العلاقات على نحو يخدم المصالح المشتركة والمتبادلة لمصر والسودان والدول الأخرى في الحاضر والمستقبل.

ثانيا: إنه مع الوضع في الاعتبار أن العلاقات المصرية الإفريقية قد عادت إلى بؤرة الاهتمام الحقيقي والمتواصل لمصر مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم في مصر واهتمامه الشخصي بتطوير العلاقات المصرية الإفريقية في مختلف المجالات وعلى أسس استراتيجية بعيدة النظر، وقد عبرت المؤتمرات التي عقدت في شرم الشيخ عن ذلك بوضوح، إلا أن الساحة الإفريقية قد تعرضت، ولا تزال تتعرض، لتدخلات العديد من القوى الإقليمية والدولية، ومنها قوى مناوئة لمصر بالتأكيد وكل منها يعمل لخدمة مصالحه الذاتية ولو على حساب مصالح الأطراف الأخرى. فهناك إسرائيل وتركيا وإيران والصين وروسيا والهند والولايات المتحدة وبالطبع فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، ومعروف على سبيل المثال أن كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا قدمت لأثيوبيا دراسات حول إقامة عدة سدود على النيل الأزرق للاستفادة من المياه، وكان يحرك إسرائيل في هذا المجال ليس فقط الضغط على مصر ولكن أيضا الأمل في مد مياه النيل إليها بشكل أو بآخر وهو ما رفضته مصر من قبل. أما الدول الإفريقية، ومنها أثيوبيا، فقد تداخلت الاعتبارات المتصلة بالنزعة الوطنية والاستقلالية، والنظرة السابقة لمصر والخوف من تأثيرها، وبالنسبة لأثيوبيا فان سد النهضة حولته الحكومات الأثيوبية خلال السنوات الأخيرة، ولأسباب داخلية، إلى قضية عزة وتنمية ونهوض وطني، والى هدف قومي ينبغي أن تلتف حوله الأمة الأثيوبية بكل مكوناتها الإثنية والسياسية، ومن ثم تم تغليف المشروع بالكثير من المبالغات الشوفينية والشعارات، وتحول أحيانا إلى تحد في مواجهة مصر، وهو أمر وان كان يخدم الحكومات الأثيوبية داخليا، إلا انه لا يخدم العلاقات والمصالح الأثيوبية والمصرية. والمؤكد أن الاعتبارات السياسية والإعلامية لعبت ولا تزال تلعب دورها السلبي في هذا المجال إلى حد كبير.

ثالثا: إنه بالرغم من أن مصر قدمت الكثير من جوانب حسن النوايا والتعبير العلني عن إدراكها لأهمية سد النهضة للتنمية الأثيوبية، بل وتقديمها مساعدات لأثيوبيا في اكثر من مجال، وبالرغم من مرونتها في التعامل مع المفاوضات الخاصة بسد النهضة، إلا انه يبدو أن السلطات الأثيوبية تميل إلى اتباع تكتيكات لاستهلاك الوقت والمماطلة حتى تبدأ في المرحلة الأولى لملء السد والتي أعلنت أديس ابابا أنها ستبدأ الشهر القادم لتضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع، وقد عبرت جولة المفاوضات التي جرت قبل أيام عن ذلك حسبما أعلنت وزارتا الري والخارجية المصريتين. وإذا كانت أثيوبيا قد سعت إلى تأليب دول حوض النيل ضد مصر، ووصلت إلى حد الإعلان عن أنه لا رجعة عن البدء في ملء السد في الشهر القادم، فان مصر لا يزال في يدها أوراقا يمكنها استخدامها، سواء على صعيد الأمم المتحدة والأطراف الدولية ذات التأثير أو حتى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، حتى وإن كانت أثيوبيا ودول إفريقية أخرى تنكر الاتفاقيات التي تحكم الاستفادة من مياه النيل وحق مصر المعروف في هذا المجال. وإذا كانت قضية سد النهضة تتجاوز العلاقات الثنائية بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى، فإنها بقدر ما تقدمه من فرصة لبناء علاقات أفضل فإنها يمكن أن تنطوي على مقامرة خطرة، خاصة وأن مصر قادرة في النهاية على الحفاظ على مصالحها ومصالح شعبها وبوسائل سلمية، ولن تنسى هؤلاء الذين وقفوا على هذا الجانب أو ذاك بغض النظر عن مبرراتهم وحساباتهم.