أفكار وآراء

أسرتك .. عنوانك وهويتك

14 يونيو 2020
14 يونيو 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

قد يطرح تساؤل عن الـ«كم» في عدد الأسر في عينة مجتمع ما، عندها هذه المؤهلات التربوية والخلقية، والدافعية الوطنية والإنسانية، باستطاعتها أن ترفد المجتمع بمثل هذه الطاقات الشابة؟ وبالتالي يمكن الحكم على مستقبل هذا المجتمع أو ذاك.

أظهرت جائحة (كرونا - كوفيد19) تهلهل العلاقات الأسرية، ووضعتها على محك التجربة المباشرة لهذه العلاقة التي عمرت طويلا عبر آلاف السنين، ولم تقع في مأزقها الخاص إلا من خلال هذا الامتحان العسير الذي وضعها هذا الوباء في هذا المأزق، ولذلك قرأنا، وسمعنا عن قصص، وغرائب ساهمت في فض العلاقات تحت العنوان العريض: (نمو العنف الأسري) أو على الأقل إرباكها وتململها، بين قطبي العلاقة في الرابطة الأسرية، حيث تصدعت أجمل علاقة، وأدت إلى كثير من الزحزحات غير المتوقعة، مما زاد من حالات العنف بين الزوجين، ولعل المرأة تكون أكثر المتضررين، كما تشير الكثير من التقارير الدولية، وربما المسألة لم تكن تحتاج إلى أن ينظر إليها بشيء من التركيز - كما هو الطرح هنا - ولكن لأنها أصبحت ظاهرة عالمية، وخصصت لها ندوات وبرامج في كل أنحاء العالم، قديمة وحديثة، عبر وسائل مختلفة، وفي مقدمتها الوسائل الإعلامية، بالإضافة إلى تخصيص برامج معالجة من قبل المتخصصين في مجالات الطب النفسي على وجه الخصوص، ولذلك فالظاهرة تكتسب بعدا عالميا، وليست محصورة في نطاق جغرافي ضيق، أو في مساحة واعية محدودة لشعوب لا تزال تعاني من التفرقة المعرفية عند تقييم أدائها في الحياة العامة، وبالتالي فسطوع شدة الخلافات، واتساع شقة هذه العلاقات الأسرية المحصنة بالكثير من المواثيق الشرعية والقانونية، ومواثيق العقد الاجتماعي المتسلسلة قصصه منذ ذلك الزمن البعيد، ينبئ عن «وسوسة» تمخر في عضد هذه العلاقة التي يراد لها أن تبقى، وأن تستمر، أكثر من أن تهزها رياح الظروف الوقتية؛ التي لا تلبث إلا أن تزول.

نعم؛ في تاريخ العلاقات الأسرية، والزوجية منها على وجه الخصوص، هناك خلافات، ومصادمات، واختلاف في وجهات النظر، وفي الرؤية التي ينتصر لها كل طرف على حدة، بناء على خبراته التي اكتسبها طوال سنوات العمر، وقناعاته التي توصل إليها طوال عمر التجربة أيضا، فيقينا لن يكون الأمر سهلا لأن يتنازل أي طرف عن هذه المكتسبات الذاتية بسهولة ويسر، ولذلك تظل هناك مراوحات في هذه العلاقة، وهذه المراوحات يستعذبها كلا الطرفين، وبلا غضاضة، لأن هناك أهدافا أكبر من وجود هذه العلاقات، وبالتالي يتم التنازل؛ ولو وقتيا؛ وإن استمر مرحليا بعد ذلك، فهذا كله موجود، ومقبول إلى حد بعيد، لكن أن تأتي ظروف قاهرة - كحالة هذه الجائحة - وتعمل على تعميق الهوة أكثر، وأكثر، فهنا الأمر يحتاج إلى شيء من التفكير، والتقييم، وهنا؛ يبدو؛ أن المسألة تأخذ طابعا فسيولوجيا أكثر منه ميكانيكيا بين طرفي هذه العلاقات المقدسة؛ إن تجوز التسمية.

مفهوم الخاص الاجتماعي للبشر، هو الذي يستدعي بكل قوة أن يكون هناك امتداد بشري مستمر (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير) - الحجرات؛ الآية (13) والآية هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهي الأسرة على وجه التحديد؛ وبالتالي فبغير هذه الخصوصية، يظل الفرد مقطوع الوصال عن الآخرين، ويخطأ من يظن أن الآخرين محدودون في فئة معينة فقط، كفئة الأصدقاء؛ مثلا؛ يمكنهم أن يغطوا هذه المثلمة على امتداد الخط المستقيم للتوالي الاجتماعي، فهم الأقرب للانسحاب في أية فرصة، متخلين عن أي التزام يفرضه عقد اجتماعي ما، ولذلك قيل: «إذا كنت تريد أن تذهب بسرعة - اذهب وحيدا! ولكن إذا كنت تريد أن تذهب بعيدًا - اذهب مع الآخرين!» والآخرين هم الأقرب؛ بالتأكيد؛ وهم الأسرة بتأكيد أكثر، ومن بعد تأتي المجموعات الأخرى المرتبطة بالعقد الاجتماعي الشامل، وكل له دور محدد في مساحة محددة، وهذا ما يجب الانتباه إليه دائما، فخلط الأوراق في بعض الأحيان؛ وخاصة في جسد هذه العلاقات؛ يكون ضرره، أكبر من نفعه، وهذه إشكالية أخرى.

في كثير من حالات الحياة العادية، يكون هناك شبه إهمال، بعضه القليل متعمد؛ بمعنى ترك كامل العبء على الزوجة؛ وأغلبه عدم اكتراث، حيث يأخذ رب الأسرة مساحته الزمنية الواسعة في مكوثه خارج المنزل، مع أن هناك أطفال يحتاجون إليه في كثير من مواضيع حياتهم اليومية، هذا بخلاف حاجتهم العاجلة في علاقتهم اليومية مع المدرسة، وربما مع الكلية؛ فالوقت المستقطع للوظيفة لكلا الزوجين، أو الزوج فقط، يبقى أمرا مفروغا منه، وهو غير حاضر هنا للنقاش، ولكن الوقت الآخر هو الذي تبقى عليه علامات استفهام كثيرة، فليس أغلبه تقتصر عليه ضرورة إهداره خارج المنزل، ولذلك أثيرت قضايا كثيرة في هذا الشأن، ولا تزال، وخصصت لها مساحات زمنية للنقاش، بهدف الوصول إلى علاجات، ولا تزال هذه النقاشات قائمة ومستمرة، وبعضها وصلت إلى منصات المحاكم، نظرا لاتساع رقعة الخلاف بين الزوجين، ولحالات؛ ربما؛ لا تستدعي هذا الإنفاق الزمني الخصب في خارج المنزل، على شاكلة برامج ترفيهية خاصة برب الأسرة، كالأسفار الطويلة، والمبالغ فيها، بينما كل أفراد الأسرة؛ بدءا من الزوجة، وانتهاء بأصغر فرد فيها قابعون في المنزل، لا حول لهم ولا قوة، والمفارقة هنا أكثر، أنه عندما حل رب الأسرة «ضيفا» دائما بين أحضان أسرته أبان عن بون شاسع في العلاقة مع طرفه الآخر، وهذه من التناقضات العجيبة التي تحدث، والأعجب على مستوى العالم؟!

هنا مقاربة موضوعية، أراها من وجهة نظر شخصية، على أنها على درجة كبيرة من الأهمية، وقد تم تداولها عبر صفحات الـ «واتس أب» ترى هذه المقاربة - حسب النص - أن: «الحياة لعبة من 5 كرات تتلاعب بها في الهواء محاولاً ألا تقع .. هذه الكرات أحدها مطاطية والباقي من الزجاج!!.. وهذه الكرات هي :العمل، العائلة، الصحة، الأصدقاء، الروح.. فـ (العمل) عبارة عن كرة مطاطية كلما وقعت قفزت مرة أخرى، بينما الكرات الأخرى مصنوعة من زجاج، إذا سقطت إحداها فلن تعود إلى سابق عهدها!! .. وستصبح إما معطوبة، أو مجروحة، أو مشروخة، أوحتى متناثرة» - انتهى النص - وطبعا كما هو هو واضح أن الأسرة هي الكرة الزجاجية الأكبر والأخطر، ويمكن هنا أن أصفها بأنها زجاجية بـ «امتياز» وذلك نظرا لحساسية الموقف في علاقات التشابك بين أفرادها، كثر هؤلاء الأفراد، أو قلوا، ربما الأمر اليوم أقل حدة، عما كان معهودا؛ حتى عهد قريب؛ في ظل وجود الأسر الممتدة، فاليوم تسود أغلب المجتمعات الأسرة التي يطلق عليها «الأسر النووية» سواء من حيث قلة أفرادها، أو من حيث استقلاليتها التامة، عاكسة بذلك الخروج الآمن من تعقد العلاقات في الأسر الممتدة التي سادت في العهد القديم، إلى بساطة هذه العلاقات، وحيويتها، ومرونتها، ورشاقتها، ولكن واقع الحال اليوم؛ كما أشرت أعلاه؛ يناقض هذا التوقع تماما.

تستوقف المتابع لنتائج الأسر بين أحضان المجتمع، ونتائجها؛ كما هو معلوم بالضرورة هم مجموعة الأبناء، هذا التشكل النوعي لدى هؤلاء الأبناء، سواء في سلوكياتهم بين أحضان المجتمع، أو من خلال تميزهم بالمعرفة، والإبداع والابتكار، فقد يظن الواحد من أول وهلة أن المسألة قضاء وقدر، ولكن عند النظر إلى هذا الأمر على أنه منتج أسري، فالمسألة تختلف جدا، وعندها يقاس الأمر على كمية الجهد المبذول في التربية، وفي الإعداد لإخراج جيل واعٍ متسلح بالكثير من القيم الجمالية في السلوك، وفي المعرفة، وفي القيادة، حيث يتم استثمار كل المواهب، وكل المقومات الفطرية عند كل فرد في الأسرة، وهذا الأمر لن يتحقق هكذا بوحي الصدفة، فلا بد أن يرافقه جهد خلاق يبذله كل من الأب والأم، وهو ما ينبئ عن علاقة تكامل، وتعاون، وعدم ارتباك، وهذه المسألة في غاية الأهمية، وينظر إليها بالكثير من الاهتمام عند التقييم.

ولذلك قد يطرح تساؤل عن الـ«كم» في عدد الأسر في عينة مجتمع ما، عندها هذه المؤهلات التربوية والخلقية، والدافعية الوطنية والإنسانية، باستطاعتها أن ترفد المجتمع بمثل هذه الطاقات الشابة؟ وبالتالي يمكن الحكم على مستقبل هذا المجتمع أو ذاك، ولكن حتى هذا الإعداد إن تم بالصورة الصحيحة المتوقعة، هل يمكن أن يعيد ترتيب أولويات الاهتمامات بين قطبي الأسرة (الزوج/‏‏ الزوجة) أم أن ما نعيشه خارج الحسابات؟ والسؤال الآخر - ختاما - إلى أي حد يلعب استقرار الأسرة في وجود أفراد صالحين في المجتمع، خالين تماما من العقد النفسية؟