أفكار وآراء

الرؤى الثاقبة في مسألة النهوض

13 يونيو 2020
13 يونيو 2020

عبد الله العليان -

من الباحثين والمفكرين العرب البارزين في الساحة الفكرية العربية، والذين طرحوا رؤى فكرية وفلسفية، لمسألة النهوض والتقدم والتحديث في الواقع العربي، ما كتبه المفكر العربي المغربي د. طه عبد الرحمن، للسير في خطى الحداثة التي سعت إليها كل الأمم الأخرى منذ أكثر من قرن، والتي تنطلق من المرجعية الذاتية، ومن منهجيات من سبقنا في المعرف المختلفة، وطرح هذا في العديد من مؤلفاته وأبحاثه الفكرية والفلسفية، خلال العقدين الماضيين، ومن أهم هذه المؤلفات، كتابه المعروف (روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس حداثة إسلامية)، كما شغلته هذه القضية في مؤلفات أخرى، منها كتابه:(الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) وكتاب (سؤال المنهج: في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد)، وطرح هذا المفكر المعروف في هذه الدراسات والأبحاث، كيفية الخروج من مأزق الواقع العربي/‏ الإسلامي الراهن، والسعي لحداثة أصيلة، تنطلق من إرثنا الفكري وثقافتنا الحية، مع الاستفادة ممن سبقنا من الشعوب الأخرى في النهضة والتقدم، لكن هذا الاستفادة، يفترض أن لا تتعدى الأطر والنماذج التي أسهمت في إبداعات هذه الشعوب العلمية وبرامجهم الفكرية، في رأي د. عبد الرحمن، وليس التقليد والتبعية على ما فعله الآخر في جوانب تتعلق بالثقافة والتراث، وطرق الحياة الفكرية والنفسية، وهذه مسائل تختلف بين الثقافات، حتى يكون الإبداع متحققاً، وخارجاً من داخلنا، وحصيلة الفكر ومنطلقاته المتحققة، كما حدث للأجداد عندما أقاموا حضارة عربية إسلامية عالمية، اعترف لها العالم القديم والحديث بأصالتها، ونموذجها المتفرد الخاص.

ويرى د. طه عبد الرحمن في مناقشته لقضية الحداثة المعاصرة وكيفية انطلاقتنا لمشروعنا الحضاري، إن العرب لا شك تعطلت لديهم قدرة الإبداع من عدة قرون، - وأسباب ليست مدار حديثنا في هذا المقال -، وأصبحوا منذ عدة قرون تقريباً عالة على الآخر في كل شيء، دون أن تكون لهم رؤية إبداعية، تستلهم الأفكار، مثلما حدث لبعض الدول الآسيوية من تقدم كبير كاد أن يتفوق على الغرب في الصناعات والعلوم الأخرى وكانوا مبدعين وليسوا متخذين التقليد السلبي مساراً لهم: «وزاد من رسوخ طبع التقليد ـ كما يقول طه عبد الرحمن ـ في نفوسهم ـ أنهم لا يرون في تقليد الفكر الحديث تقليداً، بل يرون فيه، على العكس من ذلك، تجديداً يفتح لهم باب الدخول إلى الحداثة، والواقع أن ضرر هذا التقليد لا يقل عن ضرر تقليد المتقدمين- ويقصد تقليد فلاسفة اليونان ـ لأنه تقليد لما ليس أصله ولا تاريخه عندهم، ولا يمتلكون أسباب التصرف فيه بحسب ظروفهم ومتطلباتهم، فضلاً عن أنهم قد يتوهمون وجوب العمل به على وجهه، حتى صاروا يروّضون عليه نفوسهم ويربون عليه أجيالهم، وكل ذلك يدل على سقيم لماهية روح الحداثة».

ود. طه عبد الرحمن، عندما دعا لنموذج مختلف لطريقة استجلاب الحداثة والتقدم من العرب والمسلمين، لا يرفض ما تحقق للغرب في التقدم والحداثة في جانبها العلمي، فهي واقع تتعايش معه أغلب الأمم، وكذلك ما نلمسه ونعيشه من تقدم دول الشرق الآسيوي أيضاً، لكن طه عبد الرحمن، له رؤية مجانبة للكثير ممن كتبوا ودعوا للالتحاق بالغرب تماماً- خيره وشره كما قاله بعض الكتاب العرب- وإن تراجع بعضهم عن ذلك في مؤلفات وكتابات تالية، إنما يرى طه عبد الرحمن، أننا يجب أن تكون نظرتنا ورؤيتنا مختلفة، في مسألة الاندماج في هذا المشروع الحداثوي، ويقول في كتابه (الحوار أفقاً للفكر): «يجب التفريق ـ في نظري ـ بين واقع الأشياء وروحها، والروح هي مجموعة القيم والمبادئ التي يكون الواقع تجسيداً وتطبيقاً لها، وعليه، يجب علينا أن نبحث عن الحداثة كقيم لا عن الحداثة كواقع، واقع الحداثة قائم لا ننكره ونتصل به ونقلده وننقل عنه وما إلى ذلك، ولكن ليس تقليد هذا الواقع هو الذي سيدخلنا الحداثة إلى الحداثة المرجوة، فلا بد ـ كما يقول د. طه عبد الرحمن ـ من أن نبحث عن هذه المبادئ والقيم الذي يعد الواقع تحقيقاً لها».

وهذه بلا شك عين الصواب والمنطق، في مسألة إبداع ننتجه من تأصيلنا ومن أسس العقل الذاتي، وليس استعارة عقل الآخر، وتقليده فيما وصل إليه، واعتباره نموذجا يحتذى، دون أن يكون لنا بصمة مختلفة ومغايرة، لإبداعات هذا الأخر ومنجزاته العلمية والفكرية، ثم إن الغرب نفسه، في ظل الحريات، وهي جزء مهم في انطلاق التقدم في الغرب، فتم نقد الحداثة وكشف عيوبها ومساوئها الكبيرة من خلال العديد من الفلاسفة والمفكرين منذ ظهورها،على الفكر والعلم والبيئة، سواء من المدرسة التفكيكية من الأفكار التي انتقت العقل الغربي في تحولاته الفكرية والفلسفية، أو غيرها أو غيرها الأفكار، ونشأ عنها مدارس أخرى مغايرة لعقل التنوير والحداثة، ومنها ما عرف برؤية (ما بعد الحداثة)، ومن هؤلاء: جاك دريدا، وفردريك نيتشه، وميشيل فوكو، ومارتن هيدجر، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، لكن مشكلة بعض المفكرين العرب الذين تأثروا بفلسفات الغرب وفكره أنهم لم يسعوا إلى مراجعة الواقع العربي المتردي وانتشاله من واقع التخلف من مرجعيتهم الفكرية، لكنهم أرادوا أن يعيشوا واقع الغرب ونموذجه فقط، واعتبروا الحداثة الغربية في التقانة والفكر بمثابة نهاية النماذج الفكرية، وفق ما قاله فرانسيس فوكوياما، في أطروحته - نهاية التاريخ -، وهذه قمة الانهزام الفكري، تجاه فكر الآخر المختلف، مع أن مشروع الحداثة الغربي كطموح للخروج من المأزق الغربي، جاء بعد صراعات لعقود طويلة في أوروبا، وكان وليدا لثقافته وروحه ونفسيته ومعاناته، التي جعلته الكنيسة يعيش الخرافات والانحطاط لعدة لقرون مضت، وهي بيئة مختلفة تماماً عن البيئة العربية الإسلامية، فالعقلية الأوروبية، تختلف في نظرتها لدى الكثير من الشعوب، والاختلاف، والاختلاف قضية مسلّمة عند الكثير من شعوب العالم، وهذه من السنن البشرية، فثقافة الشعوب تتعدد وتتنوع، لذلك، من المهم أن ندرك أننا كأمة عربية لها تاريخ عريق، وميراث عظيم في الحضارة، أن لا نبقى مجرد ناقلين، ولسنا مبدعين، مثل غيرنا من الأمم الأخرى.