أفكار وآراء

لا تدعوا بكين تُعيد كِتابة تاريخ الوباء

10 يونيو 2020
10 يونيو 2020

يان ليانك - كاتب صيني / ترجمة: رفيف رضا صيداوي -

إذا كان الصحفي لا يكتب ما يراه، وإذا كان الكاتِب لا يكتب ذكرياته، وما أثّر منها فيه، وإذا لم يعمل القادرون على الكلام والذين يجيدونه في مُجتمع معيّن إلّا على ترتيل أشياء حفظوها عن ظهر قلب مع ضبْط النغمة، مَن يا ترى سيبقى ليقول لنا إنّنا نعيش في هذا العالَم، وليقول لنا ما هي حقيقة الفرد وحقيقة حياةٍ مكوَّنة من لحمٍ ودم؟

في دَرسه الافتتاحيّ في الإبداع الأدبيّ المُعطى عن بُعد بسبب وباء كوفيد-19، يتوجَّه الكاتِب الصينيّ يان ليانك من بكين إلى الطلّاب الهونج كونجيّين، داعياً إيّاهم للحفاظ على ذكرياتهم عن الأزمة الحاليّة، بوصفها الحَجَر الأساس لحقيقةٍ يعود إليهم أمر نقلها.

طلّابي الأعزّاء في الدراسات العليا في جامعة العلوم والتكنولوجيا؛ اليوم، يبدأ درسنا الأوّل عبر الإنترنت. وقبل البدء، اسمحوا لي باستطرادٍ صغير. عندما كنتُ صغيراً، وحينما كنتُ أرتكب الخطأ نفسه مرّتَين أو ثلاث مرّات مُتتالية، كان أهلي يستدعونني ويسألونني وهُم يصوّبون إصبعاً على جبيني: «هل لديك ذاكرة؟».

وعندما كنتُ لا أنجح دائماً في قراءة درسي الصيني عن ظهر قلب، على الرّغم من أنّني أكون قد قرأته مرّات عدّة، كان أستاذي يدعوني للنهوض من مقعدي، ليسألني من ثمّة، أمام الفصل بأكمله: «هل لديك ذاكرة؟».

الذاكرة هي التربة التي تتجذَّر فيها الذكريات وتتكاثر. الذاكرة والذكريات يصنعان الفَرْق الأساسي بين النَّوع البشري والأنواع الأخرى من الحيوانات والنباتات. إنّهما أساسيّان بالنسبة إلينا لكي نكبر ونُصبح راشدين. أعتبر أنّهما في الغالب، أكثر أهمّيّة من الأكل أو الكسوة أو التنفُّس. ذلك أنّ فقدان الذاكرة يعني أيضاً خطر فقدان الأدوات أو القدرة على الطبخ أو الزرْع.

لماذا الكلام على هذا كلّه اليوم ؟

لأنّ وباء كوفيد-19، هذه الكارثة الوطنيّة والعالَميّة الأبعاد، لم يتمّ احتواؤه حقّاً بعد. لم تنته فصول العدوى بعد. وعلى الرّغم من ذلك، وفيما دموع العائلات المكسورة تتساقط بفعل المرض، من دون توقّف، في مُقاطعة هوبي في هووان وفي سائر أنحاء الصين، كان البعض قد استعدّ لإطلاق صرخة النصر وقرْع الطبول وإطلاق الأبواق لمجرّد أنّ الأرقام باتت أفضل. منذ أن دخل كوفيد- 19 شيئاً فشيئاً في حياتنا، لا نعلم كم من الأشخاص فارقوا الحياة حتّى الآن، سواء في المستشفيات أم في خارجها، حتّى أنّه لم يكُن الوقتُ مُتاحاً أمامنا لكي نُحقِّق حول المسألة؛ والوقت يمرّ، وقد يستمرّ هذا الأمر في أن يكون لغزاً إلى الأبد. للأجيال المُقبلة، سنترك سجلَّ وفياتٍ غامضاً أو غير مؤكَّد، لا يُمكن لذاكرتنا أن تستند إليه. وعلى الرّغم من ذلك، لا ينبغي علينا بعد الوباء أن نتوقّف عن ترداد ما ردّدته يانغ لين (في قصّة الكاتب الصيني لو شيون (1936 -1881 ) المُعنْوَنة بـ «ضحيّة العام الجديد» ) بقولِها: «أعرف فقط أنّه حين تثلج، لا تجد الحيوانات المُفترِسة ما تأكله في الجبل، ويُخشى أن تأتي إلى المدينة. لا أعلم ما إذا كانت الحيوانات تلك ستتواجد في الربيع أيضا». لكن لا ينبغي علينا أن نتصرّف أيضاَ وأيضاّ مثل أه ك (شخصيّة أخرى في قصّة أخرى للكاتِب لو شيون)، الذي استمرَّ، وهو المضروب، والمذلول حتّى الموت، في الاعتقاد بأنّه رجلٌ صلبٌ فخورٌ وبأنّه هو المُنتصِر. لماذا إذن، في حيواتنا الحاليّة والماضية، تتوالى الدراميّات والكوارث لدى الأفراد والأسر والمجتمع أو الدولة؟ لماذا يُفترَض بحُفَرِ التاريخ أن تمتلئ دائماً بألوف الموتى؟ ولماذا يُفترض بتراجيديّات عصرنا أن تتحقَّق انطلاقاً من ألف حياةٍ وحياةٍ من حيواتنا؟

ثمّة أسئلة كثيرة للغاية يُمكننا نحن البشر صوغها من دون أن نكون مخوَّلين بذلك أو من دون محاولتنا القيام به، لكنّنا نعاني من نفاد الذاكرة. ذكرياتنا الفرديّة باتت خاضعة للتخطيط، ومُستبدَلَة، ومَمحيَّة. لا نتذكَّر إلّا ما يريدون منّا أن نتذكّره، وننسى ما يدفعوننا دفعاً إلى نسيانه. من الآن فصاعداً، تغدو ذكرياتُ فردٍ ما أداة الزّمن الرّاهن، حيث تُملي ذكرياتُ جماعةٍ أو أمّةٍ على الفرد مقدار الأشياء التي ينبغي عليه نسيانها وتلك التي ينبغي عليه حفْظها.

زَبَدُ الزَّمن

لندَع الكلام على صفحات التاريخ التي جرى حقّاً تقليبها جانبا، ولْنأخذ بعَيْن الاعتبار السنوات العشرين الأخيرة فقط. إنّ أوبئة السيدا -مع فضيحة المُزارعين المُصابين بمرض السيدا أو فيروس نقص المناعة المُكتسَبة في هاينان، الذين باعوا دمهم الملوَّث في تسعينيّات القرن الفائت - وسارس - بين 2002-2003- واليوم مرض كوفيد-19، هي كوارث وطنيّة يتذكّرها كلّ الشباب أمثالكم المولودين في ثمانينيّات القرن الفائت وتسعينيّاته. فهل هذه الأمراض هي في نهاية المطاف ذات أصل بشريّ أو إنّها مصائب طبيعيّة، مثل الهزّات الأرضيّة التي وقعت في تانغشان - في العام 1976 في شمالي- شرقي الصين - وفي سيتشوان في العام 2008، والتي لا يقوى الإنسان على عمل شيء حيالها؟ لماذا تبدو العوامل البشريّة في الحالة الأولى مُتطابِقة دائماً؟

واليوم يدفع مَسار وباء كوفيد- 19 كثيراً إلى التفكير بطبعةٍ جديدة، من المُخرِج نفسه، من دراما وباء سارس العائد إلى سبع عشرة سنة خَلت. ونحن، الذين لسنا سوى غُبار صغير، لا نقوى على التقدُّم في البحث لمَعرفة مَن هو هذا المُخرِج، لكنْ ليست لدينا المَعارِف اللّازِمة للقيام بمُراجعة كاملة للأفكار المُرتبطة بسيناريو كهذا. ولكن فيما نحن في مُواجَهة هذه الدراما القاتلة، بمقدورنا على الأقلّ أن نتساءل أين ذهبت كلّ ذكرياتنا عن الحلقة المأسويّة السابقة. على يد مَن تمّ محو ذاكرتنا؟ مَن انتزعها؟ الناس الذين لا يملكون ذاكرة هُم في العُمق مثل أرض الحقول والطرقات. أيّ هيئة سنتّخذها نحن تحت ضغط الأحذية التي تدوس علينا؟ وحدها الآثار التي تخلِّفها الأحذية هذه بقادرةٍ على الإجابة.

الناس الذين يفتقرون إلى ذكريات هُم في العُمق مثل قِطع الخشب، أي أنّهم معزولون عن حياتهم السابقة. أيّ شكلٍ سيأخذون؟ وإلى أيّ شيء سيتحوّلون؟ وحدهما الفأس والمنشار يستطيعان الإجابة عن ذلك.

نهاية زمن الأجسام البشريّة إذا كنّا نحن، الذين يمنحهم حبُّ الكتابة معنى للحياة التي سنعيشها طوال حياتنا، وإذا كنتم أنتم، الطلّاب الذين تحضرون هذا الدرس عبر الإنترنت، وكلّ خرّيجي درْس الكتابة الإبداعيّة في جامعة الشعب في بكين، إذا ما تخلَّينا نحن جميعنا عن ذكرياتنا الشخصيّة المُسجَّلة على جلدنا وفي مصيرنا، فأيّ معنى سيكون للكتابة إذن؟ وأيّ قيمة ستكون للأدب؟ وما عسى المجتمع أن يطلب أيضاً من الكُتّاب؟ أيّ فَرْقٍ سيكون بين الذي يُروِّض الريشة من دون توقُّف طوال حياته وبين دُميةٍ يشدّ الآخرون خيوطها؟ إذا كان الصحفي لا يكتب ما يراه، وإذا كان الكاتِب لا يكتب ذكرياته، وما أثّر منها فيه، وإذا لم يعمل القادرون على الكلام والذين يجيدونه في مُجتمع معيّن إلّا على ترتيل أشياء حفظوها عن ظهر قلب مع ضبْط النغمة، مَن يا ترى سيبقى ليقول لنا إنّنا نعيش في هذا العالَم، وليقول لنا ما هي حقيقة الفرد وحقيقة حياةٍ مكوَّنة من لحمٍ ودم؟

انتبهوا جيّداً ولاحِظوا ما سأقوله: ماذا كنّا سنفهم لو لم يكُن هناك في ووهان اليوم الكاتِبة فانغ فانغ، المُمسكة بالريشة لتدوِّنَ على الورق ذكرياتها ومَشاعرها، فضلاً عن وجود ألوف الناس الذين يستخدمون مثلها هاتفَهم لينقلوا إلينا صرخاتهم ونداءاتهم لنجدة المَوتى؟

في خلال الصخب الكبير لعصرنا، تُعتبر الذكريات الشخصيّة في الغالب بمثابة الزَبَد الزايد لزمننا، الذي يستطيع هو محْوها. فالزمن كفيل، من دون ضجّة، ومن دون كلمة واحدة، أن يعمل على تلك الذكريات بحيث يجعلها وكأنّها لمّا تنوجِد يوماً. هكذا كما لو أنّ الذكريات، وما أن تكون قد مرّت في ناعورة الزمن، حتّى يأتي النسيان الهائل. انتهى زمن الأجسام البشريّة التي وُهِبت بروحٍ في داخلها. الهدوء استقرّ؛ المُرتكَز الصغير جدّاً للحقيقة، والذي تركّز عليه الأرض لكي تدور، لم يُعد موجوداً. هكذا، لم يعُد التاريخ سوى أساطير من دون أُسس، وسوى نسيان، وخيال. هذا هو السبب الذي من أجله يغدو الكبر مع ذاكرةٍ ومع ذكرياتٍ شخصيّة يتعذّر إفسادها أو محوها مسألةً مهمّة. فهذه الذكريات تُشكِّل دعائم أو مُرتكزات أساسيّة لإمكانيّة قَول الحقيقة. من المهمّ بالنسبة إليكم بشكلٍ خاصّ، أنتم طلّاب درْس الكتابة، الذين تميل الغالبيّة منكم، مثلي، إلى استخدام ذكرياتها للكتابة، البحث عن الحقيقة أو مجرّد العيش ببساطة. فإذا ما حُرِمنا ذات يوم من هذا الجزء البسيط من الحقيقة والذكريات، ما عسى أن يكون مصير الحقيقة الفرديّة وأصالة الوقائع التاريخيّة وموثوقيّتها في هذا العالَم يا ترى؟

سماع الإنذار

حين تكون لدينا ذاكرة وذكريات شخصيّة، حتّى لو أنّه لا يسعنا تغيير العالَم والواقع، فإنّه يُمكننا على الأقلّ أن نهمس في داخلنا في مُواجَهة وقائع باتت موحَّدة وخاضِعة لقواعد واحدة: «ألم يحدث ذلك بهذه الطريقة!» حين ينحني وباء كورونا حقّاً وسط الابتهاج الكبير، سنكون على الأقلّ قادرين على سماع أصوات النواح والشهقات الآتية من الأفراد والعائلات أو من حدودنا، ومن ثمّ تذكُّر ذلك. الذكريات الشخصيّة لا يُمكنها تغيير العالَم، غير أنّها تسمح لنا في الحقيقة بأن نمتلك قلباً.

الذكريات الشخصيّة لا يُمكنها أن تتغيَّر دائماً لتغدو قوّةً قادرةً على تغيير الواقع، غير أنّها تُساعدنا على الأقلّ على وضْع علامات استفهام في أذهاننا في مرحلة الأكاذيب. فإذا ما حدث يوماً أن أردنا تحقيق «قفزة عظيمة للأمام» - حملة جماعيّة أطلقها ماو تسي تونغ في العام 1958- سنكون أقلّه قادرين على معرفة أنّه لا يُمكننا صنْع الفولاذ من الرمل، وأنّ حقلاً بمساحة 666 متراً مربّعاً لا يُمكنه أن يُنتج 50 طنّاً؛ إنّها أشياء معروفة من بين أكثر الأشياء التي تعرفها البشريّة، وليست هراءً أيديولوجيّاً. وفي النهاية، إذا ما عرفنا ذات يوم ثورة كارثيّة جديدة على مدى عشر سنوات ــ شأن الثورة الثقافيّة المُمتدّة من العام 1966 إلى العام 1976 ــ ، يُمكننا أن نكون حينئذٍ على يقين بأنّنا لن نرى آباءنا في السجن أو على المِشنقة.

الطلّاب الأعزّاء، نحن جميعنا، أصحاب التكوين الأدبي، مُنقادون طوال حياتنا إلى التصدّي للحقيقة وللذكريات من خلال اللّغة. نحن لا نزعم أنّ آلاف الذكريات الفرديّة يُمكنها أن تكوِّن أو تُنشئ الذكريات الخاصّة بجماعةٍ، أو بأمّةٍ، أو بشعبٍ، لأنّ ذكريات الجماعة عملت على الدوام، وعلى مدى تاريخنا، على إخفاء الذكريات الفرديّة وتغييرها. اليوم، وفي الوقت الذي يبتعد فيه وباء كوفيد-19 من أن يتجمّد في ذكرى، ويحيط بنا في كلّ مكان وفي البلاد كلّها، بتنا نسمع الآن صرخات الاستبشار. ومن أجل هذا السبب تحديداً تراني كلّي أمل في أن تكونوا أنتم الطلّاب ونحن جميعنا، الذي عرفنا مَوجة كوفيد-19، رجالاً بذاكرة، أي رجالاً تقوم الذاكرة لديهم بتغذية الذكريات. إذا كنّا نعجز عن أن نكون مُطلقي إنذار شأن لي وينليانغ - طبيب ووهان الذي كان أوّل مَن بلَّغ عن وباء كوفيد-19 في الصين، والذي توفّى في السادس من شهر فبراير - فلْنكن على الأقلّ أشخاصاً يسمعون الإنذار! إذا كنّا غير قادرين على الكلام بصوتٍ عالٍ وقويّ، فلْنكن من أولئك الذين يهمسون في الأذن!

وإذا كنّا غير قادرين على الهمْس في الأذن، فلْنكن من بين تلك الكتل الصامتة التي لديها ذاكرة وذكريات! في مُواجهة آلاف الأشخاص الذين هُم على وشك أن يحتفلوا بالنصر في المعركة ضدّ كوفيد-19، دعونا نقف بصمت ولْنحمل ذاكرة هذه الأضرحة في أعماق القلب؛ ولْنكُنْ أناساً مدموغين بحديد الذاكرة الحامي وقادرين يوماً على استخدام هذه الذاكرة لنقْل ذكرياتهم إلى الأجيال المُقبلة.

ينشر بالاتفاق مع مؤسسة الفكر العربي

■ جمهوريّة الصين الشعبيّة، شينزين نُشرت في 20 /‏ 2 /‏ 2020 نقلاً عن دوريّة الكورييه إنترناسيونال ( العدد رقم 1532 - 12-18 مارس 2020 ).