أفكار وآراء

ثروة الأمم..عن العلم والمستقبل

09 يونيو 2020
09 يونيو 2020

إميل أمين -

بعيدا إلى حد ما عن إشكاليات السياسة العالمية هذه المرة، وإن كانت السياسة لا تفارقنا في صحونا أو منامنا، لا سيما في أيامنا الحاضرة، حيث العديد من الملفات المشتعلة من أقصى الغرب إلى الشرق، من وباء كورونا المستجد إلى أحوال أمريكا العنصرية المضطربة، ما يجعل القارئ وله في الحق ألف حق، أن يمعن البحث في مسار آخر غير مسارات الأزمات المزعجة، والأحاديث التي تجلب الألم والأسى، ما يجعل من نهارنا قلقا، ويحول ليلنا إلى أرق.

دعونا نتحدث هذه المرة عن العلم، وكيف له أن يغير من واقع حال العالم والبشرية في القرن الحادي والعشرين، وعن علاقة العلم بالثروة، لا سيما بعد ما جرى ويجري للكثير من الثوابت الاقتصادية في عالمنا المعاصر، كأسعار المواد الخام لا سيما النفط، وكذلك الأسواق المالية كالبورصات تحديدا، من انخفاضات رهيبة لارتباط هذه وتلك بالتغيرات السياسية على سطح الكرة الأرضية.

يعن لنا بداية الأمر أن نتساءل: كيف حققت الأمم والشعوب - لا سيما الغربية - تحديدا ثرواتها في القرون الثلاثة الماضية ؟

لعل كتاب آدم سميث «عن ثروة الأمم»، يعطينا فكرة موسعة عن ذلك، ولكي نجمل المشهد للقارئ الباحث عن فهم متغيرات العصر، فإننا نشير إلى انه في القرون الثلاثة الماضية بدءا من القرن الثامن عشر ومرورا بالتاسع عشر وحتى العشرين، تراكمت الثروات من خلال امتلاك مصادر طبيعية غنية، كانت الطريق إلى مراكمة رؤوس الأموال بطريق مشابه، الأمر الذي أدى إلى صعود القوى العظمى في أوروبا في القرن التاسع عشر بنوع خاص، والولايات المتحدة في القرن العشرين بصورة عامة، وقد كان هذا هو الطريق الكلاسيكي المعهود منذ ذلك الوقت.

غير أن رؤية أخرى قادها البروفيسور «ليستر ثورو» العميد السابق لكلية سلوان للإدارة في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، قدم لنا منذ أكثر من عقدين من الزمان رؤية لم يلتفت إليها الكثيرون في عالمنا العربي والشرق أوسطي بنوع خاص، وكذلك غالبية دول العالم الثالث، واغلب الظن أننا لو كنا قد تنبهنا إلى ما قاله الرجل، لربما تجنبنا الكثير جدا من الأخطاء التي يدفع الجميع ثمنها الآن.

البروفيسور ليستر يخبرنا انه سيكون هناك انتقال تاريخي في الثروة في القرن الحادي والعشرين، انتقال بعيد عن مسارات ومساقات الأمم التي تمتلك المصادر الطبيعية ورأس المال.

يشبه العالم الأمريكي «ثورو» ما يجري من توالد جديد للثروات بالانزياحات في الصفائح التكتونية للأرض بواسطة هزات أرضية قوية، ويرى أن هذا الانزياح السيزيمي سيعيد توزيع القوى على الأرض.

ما هي العناصر المولدة للثورة في عقودنا الحالية والقادمة وحتى نهاية العقد الحادي والعشرين؟

المفكر الأمريكي يقودنا إلى بعض المحطات والمنطلقات التي تبقى بمثابة الركائز الرئيسة للأمم والشعوب، جماعات وأفرادا، في طريقها إلى الثروة الجديدة المتعاظمة.

تبدأ تلك الأسس من عند القدرة العقلية والخيال، فالكثير جدا من التوجهات التي تحكم حال العالم في أوقاتنا الراهنة، كانت بمثابة أحلام للبشر في العقود السابقة، فيوما ما كان الطيران ومشابهة الطيور حلما بشريا، فيما اليوم يحلم البعض بتحويل الكتلة إلى طاقة والسفر بها عبر الزمن، ومن ينجح في ذلك ستكون له الثروة وافرة وطوع يديه.

الثروة عند «ثورو»، سوف تضحى قرينة الابتكار، ولهذا تنشغل جامعات العالم الكبرى وأقسام الاقتصاد منها بنوع خاص بعلم جديد ومفيد، انه علم «اقتصاد الابتكار»، ذلك الذي يفتح الآفاق للجميع، لا سيما آفاق الثروة، وعلى المرء أن يتخيل خروج احدهم باختراع دوائي هذه الأيام، لمواجهة وباء الكوفيد-19، والحقيقة انه لن يكون الفرد أو الشركة التي ينتمي إليها صاحب الحظ في إدراك الثروة، وإنما الدولة التي يتبعها، والاختراع في حد ذاته لن يكون سوى تراكم للبحث العلمي، وللعمل المميز المتجاوز السياقات التقليدية.

سوف تضحى الثروة من نصيب أصحاب الاختراعات التكنولوجية الحديثة، وعلى غير المصدق أن يراجع أرقام ثروات كل من مارك زوكربيرغ صاحب شركة الفيسبوك، وجيف بيزوس صاحب شركة آمازون، تلك التي ازدادت بنحو 30 مليار دولار لكل منهما وسط أزمة كورونا، بعد أن لم يجد البشر من متنفس لهم سوى عالم الفيسبوك ونوافذه على العالم، وطرق الشراء الحديثة من آمازون.

قبل عقدين من الزمن بدا وكأن «ليستر ثورو» يستشرف حال ومآل عالمنا، في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وجدلية الثروة ورأس المال، مع الموارد الطبيعية والأسعار، فكتب يقول: «في الواقع أن العديد من الدول التي تمتلك مصادر طبيعية بوفرة ستجد ثروتها تنخفض بشدة لأن المواد في سوق المستقبل ستكون رخيصة وستكون التجارة عالمية والأسواق مرتبطة إلكترونيا».

كتب ثورو في نهاية التسعينات ما نصه: «لقد هبطت أسعار المواد الأولية حتى الآن بحدود 60% من السبعينات حتى التسعينات، وأتوقع أنها ستهبط بنسبة 60% أخرى بحدود عام 2020».

هل كان ثورو مستشرفا للمستقبل، الذي نعيشه اليوم؟

اكثر من ذلك انه يخبرنا أن رأس المال ذاته سيتحول إلى بضاعة تنتقل خلال العالم بسرعة إلكترونية، الأمر الذي يعني أن كثيرا من الدول التي تفتقر إلى المصادر الطبيعية يمكنها أن تزدهر إذا وضعت أولوياتها في عالم التكنولوجيا وريادة الابتكار التي يمكن أن تعطيها ميزة تنافسية في السوق العالمية.

هل لنا أن نتساءل وفي نقاط محددة عن لوائح للتكنولوجيا الرئيسية التي يمكن أن تستخدم كمحركات للثورة والازدهار في القرن الحالي؟

مرشدنا هذه المرة هي اليابان، ولكي نعرف كيف تتقدم الأمم فإننا لن تأخذنا المفاجأة إذا اكتشفنا أن اللائحة القادمة والنموذجية قد وضعتها وزارة الصناعة والتجارة العالمية في اليابان عام 1990... ما الذي تحويه؟

بدون إطالة، يمكن إجمالها فيما يلي: الإلكترونيات الدقيقة، التكنولوجيا الحيوية، صناعات علم المواد الحديثة، الاتصالات، صناعة الطائرات المدنية، الإنسان الآلي والماكينات التي تدار ذاتيا، الحاسوب بما فيه من برمجيات وتجهيزات.

والمدهش هنا انه ومن دون أي استثناء فإن لكل واحدة من التكنولوجيات المذكورة التي ستقود القرن الحادي والعشرين بحسب ثورو جذورا عميقة في ثورات الكم والحاسوب وجزئ ال « د. ان. أ».

المهم هنا هو أن هذه الثورات العلمية الثلاث ليست فقط المفتاح إلى التقدم العلمي في القرن الحادي والعشرين، وإنما هي أيضا المحركات الديناميكية للثروة والازدهار.

ماذا نتعلم من السطور المتقدمة؟

الحقيقة هي انه في أي نشاط هناك رابحون وهناك خاسرون، وسيكون الرابحون هم الأمم التي تعي كامل الأهمية الحيوية لهذه الثورات العلمية الثلاث.

أما أولئك الذين يهزأون بقدرة هذه الثورات فقد يجدون انفسهم مهمشين في السوق العالمية للقرن الحادي والعشرين.