أفكار وآراء

«الانسحاب» مبدأ سياسة ترامب الخارجية

08 يونيو 2020
08 يونيو 2020

ريتشارد هاس - واشنطن بوست - ترجمة : قاسم مكي -

قضى الرئيس ترامب في المكتب البيضاوي أكثر من ثلاثة أعوام ولم يدَّعِ لنفسه بَعد مبدأَ سياسةٍ خارجيةٍ خاصَّا بِهِ. وربما حان الوقت لمنحه واحدا. دعونا نُسمِّيه «مبدأ الانسحاب».

لدى ترامب شعار هو «أمريكا أولا». لكن ليس لديه مبدأ. وهو (أي المبدأ) مصطلح خاص بالتركيبات المفهومية العريضة التي تفسر سياسات محددة وكثيرة.

فمبدأ ترومان كان يعني أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم العون للبلدان المهددة من الشيوعية التي يدعمها السوفييت. ومبدأ كارتر أعلن عن عزم الولايات المتحدة الدفاع عن الخليج العربي. ومبدأ ريجان عبر عن نية الولايات المتحدة دعم «المحاربين من أجل الحرية» ضد الأنظمة التي يساندها السوفييت. وفي كل حالة من هذه الحالات كان الإعلان عن المبدأ موجَّه إلى الحلفاء والأعداء كليهما إلى جانب الكونجرس والشعب الأمريكي.

الانسحاب ليس أقل مركزية لرئاسة ترامب. فهو قد سحب الولايات المتحدة من كل اتفاقية ومؤسسة متعددة الأطراف في الخارج باسم العمل المنفرد. ولكن ذلك (أي العمل المنفرد) لا معنى له في عالم تتزايد فيه التحديات الدولية التي يمكن مواجهتها على أفضل نحو من خلال العمل الجماعي وليس الفردي.

في واحدة من أولى أعماله سحب الرئيس ترامب الولايات المتحدة من «شراكة عبر المحيط الهادي»، وهي الاتفاقية التجارية التي تضم أكثر من عشرة بلدان تمثل 40% من اقتصاد العالم. كان الدافع وراء الشراكة إرساء قواعد طموحة للتجارة يتوجب على الصين الوفاء بها أو المخاطرة بتخطِّيها (من قِبَل الآخرين). لكن قرار الولايات المتحدة بعدم الانضمام إلى الاتفاقية التي بذلت هي نفسها جهدا كبيرا من أجلها أدَّى بدلا عن ذلك إلى تخفيف الضغط على الصين لإجراء إصلاحات وعاقب المُصدِّرين الأمريكيين الساعين إلى بيع منتجاتهم لأعضاء الشراكة الجديدة.

ومؤخرا جدا أوقفت إدارة ترامب التمويل عن منظمة الصحة العالمية وهددت بالانسحاب منها وسط جائحة عالمية. وبعد أيام لاحقا أعلنت أنها ستنسحب من معاهدة الأجواء المفتوحة. وهي اتفاقية بين عشرات البلدان تسمح لها بالطيران الاستطلاعي فوق أراضي بعضها البعض للتثبت من البيانات والتقليل من التقديرات الخاطئة.

وهنالك انسحابات أخرى كثيرة بما في ذلك الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني في عام 2015 ومعاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى واليونيسكو ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

ربما يعتقد ترامب أن الانسحاب يزيد من خيارات الولايات المتحدة ويمنحه رافعة (ميزة) في المفاوضات المستقبلية. من الواضح أنه يحب الرسالة السياسية التي يمكن أن يبعث بها الانسحاب. لكن ثمنه غالٍ بصرف النظر عن الدافع إليه. فالانسحاب من اتفاقية باريس نفَّرَ حلفاء عديدين يعتقدون عن حق أن التغير المناخي يشكل تحديا وجوديا. كما تضيف الانسحابات المتتالية عن المعاهدات جرعة قوية من عدم القدرة على التنبؤ باتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية ولا موثوقيتها. يعزز هذا الفهم انسحابا من نوع آخر. إنه سحب الدعم العسكري للأكراد في سوريا وربما للحكومة في أفغانستان الآن. ومن الممكن أن يدفع احتمال الانسحاب الأصدقاء والحلفاء إلى مراجعة جدوى قرارهم بوضع المسؤولية عن أمنهم في أيدٍ أمريكية.

يواجه الحلفاء بدون «ولاياتٍ متحدةٍ» يعتمدون عليها اختيارا غير جذاب بين اللجوء إلى جار قوي أو بناء قدراتهم العسكرية الخاصة أو الاثنين معا. وأيا منهما يناقض مصالح الولايات المتحدة ويمكن أن يوجد فرصا للمنافسين مثل الصين لاكتساب مكانة على حسابنا.

وفي حالة أفغانستان تخاطر خطط الانسحاب المرتبطة عسكريا بالتقويم السياسي الأمريكي وليس بالأوضاع على الأرض بسيطرة طالبان عليها مرة أخرى. وهي ذات الجماعة المسؤولة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

ما يجعل الأمور أسوأ أن الانسحابات أحادية (من طرف واحد). وكانت ستختلف جدا لو تشاورت الولايات المتحدة مع الحلفاء والأصدقاء وتقدمت إلى منظمة الصحة العالمية بحزمة إصلاحات مع توضيح أن كل البلدان، في حال عدم تطبيقها، ستموِّل منظمةً جديدة أكثر قدرة على التصدي للتحديات الصحية التي تواجه العالم.

وفي حالة إيران، قوَّض الانسحاب احتمالَ الحصولِ على تأييد فرنسا وبريطانيا وألمانيا لمقاربةٍ كان من شأنها توسيع بنود مهمة في اتفاق 2015 مقابل رفع عقوبات مُنتقاة.

لكننا الآن عزلنا أنفسنا أكثر من عزلنا لإيران فيما هي تبتعد باطِّراد عن قيود الاتفاق. من حيث المبدأ يمكن تبرير الانسحاب من اتفاق دولي ما بالعيوب التي تكتنفه. كان ذلك هو تفسيُر التخلي عن الاتفاق النووي الإيراني. ويمكن أيضا تبريره بتقرير أن طرفا أو أكثر انتهك الاتفاق. وكانت تلك هي الحجة وراء الانسحاب من معاهدتي الصواريخ النووية المتوسطة المدى والأجواء المفتوحة.

لكن أي اتفاق يتم التفاوض حوله مع آخرين لا يخلو حتما من العيوب.

والسؤال الذي يجب طرحه ليس هل الاتفاق معيب أم لا ولكن هل هو أقل عيوبا من اتفاق بديل يمكن التفاوض حوله أم أن الأفضل ألا يكون هنالك اتفاق أصلا والتصرف بطريقة أحادية؟

لا توجد أدلة كافية، حتى الآن على الأقل، على أن الانسحاب مهَّد السبيل لشيء أفضل. بل بالعكس لقد أفضى، كمبدأ (يحكم السياسة الخارجية الأمريكية)، إلى اضمحلال نفوذ وازدهار وأمن الولايات المتحدة.

■ الكاتب رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي