أفكار وآراء

الإنسانية .. بين معسكري القوة والضعف

07 يونيو 2020
07 يونيو 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

البعض، يُقيّم الضعف على أنه شيطان «خامل» في لحظة تموضعه، و»مارد» في لحظات هيجانه، وعندها فقط يتحول إلى قوة تقضي على الأخضر واليابس، ومعنى ذلك أنه ليس هناك ضعف بالمطلق، ولا قوة بالمطلق، إنما هناك نهايات عندما تصل إلى نقطة صفر ما، تبدأ بحالة أخرى قد تكون مناقضة لما كانت عليه

ألم يتعب هذا الإنسان من سيئات أعماله، ألم يتذوق طعم أفعاله السامية، ألم تحن الفرصة بعد، لأن يغرس شجرة خضراء في طريقه الممتد، ألم يستوقفه نبع ماء زلال يرتوي منه، ليعيد إلى نفسه الظمأى شيئا من السكينة والهدوء والارتياح، ألم يستشعر دنو صحته، عقله، فكره، مكامن قوته، أجله، لتكن هذه المحفزات متكئا تمثل عنده لحظة استيقاظ من غفوة دامت عمرا، ولا تزال؟

ألا ليس لهذا التعنت، والتشتت، وحرق المراحل، من نهاية تفضي إلى شيء من البناءات التي لا تزال حلمًا مدغدغًا للمخيلة، منذ بدء الخليقة، حيث اقتتل ابنا آدم، لأجل البقاء، ولا تزال المعركة حامية الوطيس؟

أهو الكبرياء، أهي الذات المستعرة، أهي العزة، التي تأخذ بالإثم، أهي الحاجة، أهي مصيدة الرذيلة الواقعة بين طرفي الفضيلة، أهي منغصات الحياة التي لا نريدها، والتي نخشاها، والتي نسعى إليها في أحيان كثيرة؟

أهي العلاقة الجدلية بين الإنسان وواقعه، حيث كلاهما يعشق الآخر، وكلاهما يكره الآخر، وكلاهما يخوّن الآخر، وكلاهما يعقد مع الآخر آخر صفقة رابحة؟

وثمة أسئلة كثيرة تتسلسل عبر مفازات الذاكرة، وإفرازاتها، ويأتي الواقع كل يوم ليكثف من توالد هذه الأسئلة وتزاحمها على الذاكرة، فتقض المضجع، وترهق المخدع، ولا تصل إلى نتيجة قاطعة، بل تعاود توالدها كل اليوم بصيغة مختلفة، انعكاسا لواقع الحال الذي يضج من جهاته الأربع بمآسٍ لا أول لها ولا آخر، والشاهد فيها هو الشاهد، والفاعل فيها هو الفاعل، والبطل فيها هو البطل، والمنتصر فيها هو المنتصر، والمهزوم فيها هو المهزوم، إنه الإنسان بكل مفارقاته، وخزعبلاته، وتعقله، وجنونه، وارتباكاته.

يقول المفكر الألماني نيتشه، الموسوم بتناقضات السلوك والقيم: «على المرء أن يحترم ذاته، كي يكون جديرا بها، ولكي يجعل منها هدفا ومعنى وجوديا»-حسب المصدر- ولكن يبدو أن هذا الاحترام لم يتحقق بعد، كل هذه القرون الزمنية التي مرت بها البشرية، حيث لا تزال عند مربعها الأول، عند نقطة الالتقاء التي جمعت بين قابيل وهابيل، حيث قتل قابيل هابيل، وتأسست صيغة العلاقة المضطربة بين الإنسان والإنسان، ولا يزال الحال يراوح مكانه إلى اليوم، ومن يخرج عن هذه الصورة، يركل بالأرجل، ويضرب بالأيدي، ويقذف بالألسنة، وتنشر أفعاله على حبل الغسيل، وتوضع عليه علامة استفهام كبيرة، لأنه شاذ عن القاعدة، وقد يوسم باضطراب العقل والفكر، ويدمغ بعلامة أنه «مجنون» لأنه لا يعقل أن تكون الأمة كلها مجنونة، وهو العاقل الوحيد في هذا الكون، وهكذا تجتمع الرؤية على ضلالة.

لماذا تنضوي البشرية تحت أغطية القوة والتمرد والكبرياء الأعمى؟

هل لأن الحق لا يأتي إلا بالقوة، وأن الغنى لا يأتي إلا بالسرقة، وأن العلم لا يأتي إلا بالغش، وأن السلام لا يأتي إلا بالتزوير، وأن الحب لا يأتي إلا بالمخادعة، وأن الرضا لا يكون إلا بالتنازل، وأن الحياة لا تنتصر إلا بالظلم؟ فإن كان الأمر على هذه الشاكلة، فإن قبول كل الممارسات السلبية التي يأتي بها الإنسان تظل مقبولة «جبرا» ولذلك يحاربها القانون، وتحاربها الفطرة، قبل ذلك، ولا ينتصر لها إلا الجبناء، وإن كان الأمر غير ذلك تماما، وأن كل ما يشير إلى ذلك ويذهب إليه، هو منبوذ، ومرفوض، ومحارب، فإن أمام الإنسان لا تزال هناك فرصة للمراجعة، وفرصة للتصحيح، وفرصة للعودة إلا حيث الفطرة «كل مولود يولد على الفطرة ...» حسب نص الحديث.

ما يروج له أكثر، وهو ما هو مأسوف عليه حقا، أن قيمنا الإنسانية هي قيم الضعفاء، وقيم الفقراء، وقيم المغلوبين، والمقهورين، ومتى استطاع أحدنا أن يتحرر من أي من هذه العوالق، يستطيع حينها أن يتحرر من إنسانيته، ويرافق شياطينه، وما أكثرها، فالإنسان، وفق هذه الصورة، مارد، وما يزيد من تشيطنه، هو المال، والجاه، والمنصب، والصحة، وطول العمر، ولذلك قيل: «إنه لولا ثلاثة، لما طأطأ الإنسان هامته: الفقر والمرض، والموت» فهذه المنغصات الثلاثة، هي التي لها القدرة الكامنة لسحب الهامات من عليائها، والغطرسة من عنفوانها، والجبروت من مرابضها، فالكبرياء، حالة فضلى، ولكنه يفقد تعقله عندما تتلبسه الأنفس الجاهلة، والضعيفة، حيث تفقد القدرة على إيجاد توازن بين استحقاقات الكبرياء الذاهبة إلى الحكمة والتعقل، وتتماهى إلى حيث الممارسات اللاواعية، وهناك يكمن مقتله، وكما يقال: «مقتل الرجل بين فكيه» فالكلمة الناضجة كبرياء، والتصرف العاقل كبرياء، والحكمة في القول والعمل كبرياء، ولكن كل هذه الأشياء تفقد قيمتها عندما يتحول الكبرياء إلى سيف في يد جاهل، وإلى لسان بين فكي مثرثر، وإلى فكر بين دواخل عقل مشوه، وبين دهاليز نفس تعيش عقدة النقص، أو الاضطراب.

البعض، يُقيّم الضعف على أنه شيطان «خامل» في لحظة تموضعه، و»مارد» في لحظات هيجانه، وعندها فقط يتحول إلى قوة تقضي على الأخضر واليابس، ومعنى ذلك أنه ليس هناك ضعف بالمطلق، ولا قوة بالمطلق، إنما هناك نهايات عندما تصل إلى نقطة صفر ما، تبدأ بحالة أخرى قد تكون مناقضة لما كانت عليه، فتحولها الثاني، صورة مغايرة لما ألفته زمنا عبر صورتها النمطية المعروفة، ولذلك تتشكل قوى كانت ضعيفة، وتتماهى قوى كانت قوية، وتظهر شعوب ما كان لها ذكر في زمن ما، وتنسحب أخرى من الميادين كان لها القول الفصل، وفي كل حالات الضعف والقوة يبقى الإنسان هو الفاعل الحقيقي بينهما، ولذلك يشار إليه بالعتاب، وتقام ضده المحاكم، وتقطع عنقه بالمقاصل، ومع كل هذه الأدوار التي يقوم بها، والمجبر على بعضها، لا يزال يمارس غواياته الكثيرة على نفسه، وعلى جميع الكائنات من حوله دون استثناء، ولذلك روض الأسود الهادرة، والطيور الجارحة، وأخضع قوى الكون الجائحة، ولا يزال على حالته الثائرة.

تشكل الذات حالة معنوية بامتياز، ولذلك يُقيّم أو ينظر إلى احترامها على أنه مستوى عالٍ من الفكر، ومن التوازن النفسي، والتحكم العقلي، وبالتالي فإن تحقق ذلك على مستوى الشعوب، فكم ستتغير موازين القوى، وكم ستتغير مبادلات السلوك بين مختلف الأطراف، وكم ستتحول الممارسات من ممارسات غبية، إلى ممارسات عقلانية، ومن نتائج همجية، إلى نتائج ربحية لجميع أطراف المعادلة القائمة بين أي طرفين، حيث لا ظلم، ولا تسلط، ولا تحكم، ولا غطرسة، عندها تلبس الحياة اخضرارا إنسانيا، يجوب أرجاء الكون، ويفضي إلى مساحات من الود، والأمان، والرضا، والتسامح، والمحبة.

وهل هناك ثمة مفارقة بين احترام الذات والكبرياء، أم أن هناك توافقا على خط سير المسطرة المستقيم؟

يقينا، لا تصادم بين المعنيين، وإنما يكمل أحدهما الآخر، تبقى المفارقة قائمة في تضادهما على حالات الإنسان الفردية، وقياس ذلك ينعكس من خلال ما يبديه كل فرد من سلوك في واقع حياته، وتكمن الصعوبة أكثر في قدرة الإنسان على إيجاد حالة الاتزان في توظيف كلاهما على هذا السلوك، لما تتنازع هذا الإنسان مجموعة من المحفزات غير الواعية، أغلبها، وهذا هو الامتحان العسير الذي نواجهه جميعا، ومع استحضار هذه الحقيقة يبقى على الإنسان أن يستشعر حجم المسؤولية في إيجاد التوازن المنشود، بين المحفزات الذاتية في نفسه، وبين السلوك الذي يبديه في واقع الحياة، ومشكلتنا الكبرى تكمن أكثر في انسحاب المسلمات القيمية من العرف الجمعي، وجرها إلى المضان الخاصة عند الفرد، في أي لحظة تجد إلى ذلك سبيلا، وهذا يحسب على حالة الضعف التي يعاني منها الفرد، وقد يتآزر مع المجموعة امتدادا لحالة الضعف ذاتها في ما يسمى بـ»عقلية القطيع» حيث يغيب العقل الواعي عن استيعاب الممارسات والسلوكيات الخاطئة في لحظات هذا الضعف، وهذه تؤججها العلاقة القائمة بيننا وبين مجموعة القيم المادية، والسلوكية، والوجاهية، وهذه كلها تذهب إلى مضان الخاص، والخاص جدا، وهنا مقتل إنسانيتنا على وجه الخصوص، حيث ترافقنا أحلامنا المدغدغة لمشاعر التميز، والتحكم، والاستعلاء، والسيطرة، وفي لحظات الانتشاء نعود إلى مربعنا الأول.