مقتل فلويد .. عالمنا يتغير
محمد جميل أحمد -
ما ليس بوسعنا الشك فيه اليوم، هو أن ثمة عالما يتغير، وأن هناك ملامح لحقبة جديدة بدأت تتشكل دون أن يقطع المراقب بحدود تلك القطيعة التي تتطور مع عالم الأمس.
لقد كانت ضربة البداية من مفاجآت فيروس كورونا، الذي ذكر العالم فجأة بمحطات منسية وموغلة في القدم من تاريخه، محطات مثل العجز والضعف وفقدان الثقة، لكنه هذا الفيروس أيضًا أعاد للعالم، في الوقت نفسه، ضرورة التفكير في وجهة واحدة وإعادة الاعتبار لهوية مشتركة لسكان هذه الأرض، بل بدا من الملامح الكابوسية لذلك العالم الذي بشر به فيروس كورونا، أن يفكر الغرب (لا على سبيل الفانتازيا) في هجر مدن المتروبول الكبرى إذا كان ثمة العيش في تلك المدن هو المقايضة بمطلق الحياة.
لقد كانت مفارقات فيروس كورونا كما لو أنها مفارقات ما ورائية، فالأسباب هنا، ولأنها أول مرة يكتشف فيها العالم الحديث شعورًا وجدانيًا جمعيًا من الخوف، أصبحت المقارنات أيضًا معها غريبة. فالناس تعيش أزمة اقتصادية خطيرة وغير مسبوقة بسبب هذا الفيروس، لكن هذه الأزمة لا تشبه أزمة الانهيار الاقتصادي الكبير في نهاية عشرينيات القرن الماضي، حيث كان من الأسباب الظاهرة لذلك الانهيار، تدمير المدن والمصانع في دول أوربا بسبب الحرب، وكذلك حصاد الإنفلونزا الإسبانية.
كما لم تكن مقارنة ملامح الأزمة الاقتصادية التي يعيشها عالم اليوم بسبب فيروس كورونا تشبه أزمة الكساد الذي بدا عليه العالم منذ عام 2008 بسبب المضاربات الرأسمالية، فاليوم لا تزال المصانع كما هي، وليس ثمة مضاربات في النظام المصرفي للعالم، ولكن هناك خوفا من مجهول لا يعرف أحد توقيتًا لزواله، ولا تحديدًا لنهايته، فيما هو يستهدف البشر في ذواتهم وليس فيما حولهم.
وفيما لم تزل معاناة العالم من هذا الوباء تعكس عجزها مع التبرم من خطورة ترك أمور العالم كما هي عليه اليوم، اندلع عنف التظاهرات التي نجمت عن مقتل مواطن أمريكي أسود خنقًا على يد شرطي أمريكي أبيض، في الولايات المتحدة منذ أكثر من أسبوع لتعكس برمًا شمل المجتمع الأمريكي في غالبيته الصامتة من تراكمات حوادث طالت السود في الجهاز الشرطي الأمريكي بما يدل على أنها خطايا نظام وليس تصرفات أفراد، فجاء هذا التوقيت الذي قُتل فيه المواطن فلويد كما لو أنه لحظة ثورية تعد بإرهاص غير مسبوق، في مواجهة ليس فقط تاريخ مخز للشرطة الأمريكية مع السود، بل كذلك للوقوف في وجه رئيس شعبوي ضاعفت ممارساته الشعوبية من ردود فعل كثيرة ظلت متراكمة ثم انفجرت فجأة، خلال هذه الأزمة التي لا نزال نشهد فصولها في الولايات المتحدة، وكلما حاول ذلك الرئيس معالجة الوضع زاده احتقانا.
ولعل ما يكشف حجم قوة هذه التظاهرات وقوة الغضب الذي يحركها أن تندلع في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من مضاعفات وباء كورونا وفيه حظر للتجول في كثير من الولايات الموبوءة، ومع ذلك خرجت الحشود إلى الشوارع لتعكس حجم الغضب من ذلك الأذى العنصري الذي ألحقه شرطي أبيض بمواطن أسود.
استمرار الاحتجاجات مع ما صاحبها من عنف زادت من حدته، نسبُ البطالة بسبب وباء كورونا ما عكس ميلًا واضحًا لدى البعض في إعمال النهب والسلب في الممتلكات العامة، ذلك الاستمرار جعل منها مناسبة للعدوى فخرجت عواصم أوروبية مثل لندن وباريس وحتى نيوزيلاند لتتفاعل مع إدانة ذلك الظلم بوصفه ظلمًا قابلًا للانتقال إلى أي مكان ما دام أنه حدث في الولايات المتحدة.
حتى الآن، لا يمكن الحدس بما تنطوي عليه المصائر التي قد يرسو عليها حراك المدن في الولايات المتحدة، لكن بلا شك ثمة تغيير حدث في أمريكا، ولا سيما عبر فكرة الاعتصام التي بدأت في مدينة مينيا بوليس بولاية مينيسوتا (حيث قتل فلويد) لتجديد فعل التظاهر باستمرار حتى تحقيق المطالب. وهو ما بدا ظاهر التأثر بفكرة الثورة السودانية التي ابتدعت استراتيجية الاعتصام كفعل سياسي متجدد حتى تحقيق المطالب، وهذه الاستراتيجية قد تتجدد في تنظيمات التظاهر التي أصبحت تنتشر في المدن الأمريكية.
إن المسيرات التي انطلقت من مينيا بوليس عقب مقتل المواطن فلويد لا تبدو فعلًا عفويًا بل قد تكون إرهاصًا بتفكير جديد زامن التحولات التي تطرأ على عالم اليوم بفعل الانسدادات النسقية للعولمة المتوحشة، وبفعل فكرة العجز العام لطاقة البشر حيال فعل طالما اعتبره العالم الحديث فائضًا لقوته الخارقة حتى أعاده فيروس كورونا تذكيره بأزمنة عجز قروسطية، الأمر الذي قد يدعو البشر إلى اختبار وجوه جديدة لحياة مشتركة ومتجاوزة للمآلات التي كانت عليها عشية ظهور هذا الفيروس.
بكل تأكيد، على مستوى الداخل الأمريكي ستلعب تظاهرات مينيابوليس دورًا كبيرًا في تقويض الشعبوية الترامبية، لأن أكبر اختبار لتك الشعبوية هو وضعها في الميدان الذي تهرب منه باستمرار أي وضعها أمام تحمل المسؤولية في اللحظات الحرجة، اللحظات التي تعري الشعبوية تماما، أي حين تصورها استهلاكًا للديمقراطية دون احترام بقواعدها!