أفكار وآراء

مسألة الإنصاف في الأحكام الفكرية

23 مايو 2020
23 مايو 2020

عبدالله العليان -

في حياتنا الإنسانية ثمة رؤى ونظرات وتوقعات، تتسم بالحدية الصارمة أحياناً، التي تتجه إلى التعميم في أحكامها، دون أن تبحث وتتأكد من الأحكام التعميمية التي قد تكون غير صحيحة، وعندما أصدرت دراستي (الاستشراق) في 2002، رأى البعض أني أعطيت الاستشراق أكثر مما يستحق، لأن هذا الاستشراق تحامل على العرب كثيرا ولم يكن نزيهاً في تقييمه ومنهجه ، ولذلك فان إعطاء الإيجابية لهذه الكتابات الاستشراقية ، ربما يعطي الانطباع بإيجابيات عمل المستشرقين ، والحقيقة أنني لا أتفق مع هذا الرأي، لأنه من العدل والإنصاف، ألا نحكم على كل أعمال المستشرقين بالسلبية والإجحاف والظلم، للعرب والمسلمين دون الفرز والتمييز بين كل الأعمال، وقد أشرت في هذه الدراسة إلى الفارق بين الاستشراق العادل المنصف، وبين الاستشراق المتحامل الذي سبق الحملة الاستعمارية ومهد لها، بالتعريف عن أحوال العرب وثقافتهم ومعيشتهم ليسهل خطته في استعماره، ولذلك من العدل التفريق بين عمل هؤلاء وهؤلاء، مسألة ضرورية، وديننا يطلب منا نعدل مع هؤلاء، ولا يجب أن نظلمهم فيما كتبوه خاصة المنصفين، حتى وإن ظهر منهم بعض الكتابات التي لا نتفق معها.

لكن من العدل ألا نضعهم كلهم في سلة واحدة، لمجرد أنهم ينتمون إلى المعرفة الاستشراقية، وقلت في مقدمة هذه الدراسة «أن بعض أعمال المستشرقين الغربيين الذين عنوا بدراسة العالم العربي وحضارته العربية الإسلامية، وثقافته، وتاريخه، كانت لأهداف ودوافع بعضها سبق الحملة الاستعمارية ومهّد لها بالمعارف المختلفة.. لكنه من الإنصاف الالتفات للدافع العلمي المعرفي في أعمال بعض المستشرقين وجهودهم في كشف التاريخ العربي، فالبعض من المستشرقين الغربيين الذي أقبلوا واهتموا بدراسة العلوم العربية والإسلامية كان دافعهم الأساسي هو المعرفة الخالصة للشرق، سيما التاريخ العربي الإسلامي وهو دافع علمي محض بهدف الاطلاع على ثقافة هذه الأمة وحضارتها وتاريخها، وقد اتخذوا الاستشراق علماً قائماً بذاته، وقد عانوا ما عانوا بسببه من مشاق ومتاعب، وما سبب لهم من فقر ومرض في سبيل القيام به، وهي بلا شك مهمة شاقة وجهود مضنية خاصة دراسة حضارة عريقة كالحضارة العربية الإسلامية، ولو أنهم اختاروا مهنة أخرى لعادت عليهم بالكسب المادي والرفاهية ورغد العيش».

والحقيقة أنني كنت قبل أن أكتب هذا البحث عن الاستشراق، وأعمال المستشرقين، كانت النظرة له سلبية بصورة عامة دون تمييز، في كل كتابات المستشرقين، لكون الصورة العامة عنه مجحفة، وزادت النظرة إلى الاستشراق أيضاً، المفكر الفلسطيني د. إدوارد سعيد، في كتابه (الاستشراق.. المعرفة.. السلطة.. الإنشاء)، وأعطى الاستشراق في هذا الكتاب صورة قاتمة وسلبية لأعمالهم، وخاصة أن الرجل أكاديمي في الغرب نفسه، وليس عنده أحكام مسبقة تجاه الاستشراق، أو معرفة الشرق، من الغرب، إنما النقد الذي طرحه إدوارد سعيد، كان من منطلقات بحثية ورؤية منهجية علمية، وكان هذا النقد موجهاً للاستشراق غير المنصف والمتحامل، الذي لم يعطِ تقييمات عادلة ومنهجية صحيحة، وبعيداً مسألة الصراعات القديمة بين الإسلام والغرب، والشيء الإيجابي في كتاب إدوارد سعيد، كشف عن الأهداف الحقيقية لعمل أغلب المستشرقين، حتى وإن ادعوا أن أعمالهم كما قيل عنها، أنها تسير وفق المنهج العلمي كما يتحدث الغربيون عنه كثيراً!، وأيضاً هذه الروية السلبية قالها أيضاً الباحث التونسي هشام جعيط في كتابه (أوروبا والإسلام)، فيقول: «وهذه الرؤية اتسمت برؤية سيكولوجية جامدة للإسلام وبنزعة مركزية للأنا والآخر تكاد تنسف فكر وحضارة بل وعقلية الآخر المختلف، وهذه قللت كثيراً من وضعية الاستشراق وربما مكانته، إذ صور أنه ملأ الفراغ الذي وجده في فترة من الفترات وهي فترة ضعف العرب والمسلمين وتراجعهم العلمي والثقافي وكذلك فترة الاستعمار ونتائجه السلبية، وهذه الرؤية الجامدة أيضاً في بعض منطلقاتها ضخمت «الأنا» بصورة لا عقلانية، وتخالف ما يطرحونه للآخر المختلف بأنه «لا عقلاني» ناهيك عن قدراته وملكاته العقلية والفكرية وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً، والعمل على تأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محورها «الأنا» الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً».

لكن هذه الأعمال الاستشراقية غير المنصفة التي لاقت رواجاً كبيراً في الأربعينات والخمسينات، استطاع كتاب إدوارد سعيد أن يفضح الهالة الكبيرة عند بعض الغربيين والعرب الذين انبهروا بأعمالهم، لكن مع الوقت وظهور العديد من الكتابات الغربية خاصة الاستشراق الألماني، أعطت الاستشراق حجمه وبواعثه الحقيقية، خاصة أعمال المستشرقين الذين سبقوا الحملات الاستعمارية، واتصفت أعمالهم بعدم الإنصاف والتحامل، والافتراض أن تتسم بالمصداقية في التقييم، حتى وإن كان هدفهم بواعث استعمارية، أو أحكام مسبقة بسبب الاختلاف الفكري والثقافي.

لكن تظل مسألة التفريق بين كل عمل من أعمال الاستشراق ضرورية وعادلة، وإعطاؤه حقه من العدل والإنصاف في التقييم العام لغالبية ما كتبوه لم يكن منصفاً، لكن بعض المستشرقين، كانوا منصفين، ولذلك لا ننسى جهودهم وإنجازاتهم العلمية الكثيرة في تراث العرب والمسلمين، في الحقول العلمية المتعددة المعارف، وكذلك جهودهم في نشر الوثائق والمعاجم والفهارس، إلى جانب تحقيق نصوص، والتأسيس في الجامعات والمعاهد العليا الغربية، وكراسي اللغات الشرقية، وجعلها من الاهتمامات في هذه المؤسسات العلمية والبحثية، منذ العصر الوسيط، وتضاعفت بعد ذلك وفق الاحتياجات العلمية والفكرية الأخرى، ووضعت اللغات الشرقية، محل الاهتمام، باعتبارها من اللغة التاريخية العريقة، وبغض النظر عن سبب هذا الاهتمام، وأغراضه وأهدافه، لكن يجب أن لا ننسى أنهم حفظوا لنا الكثير من الآثار والمخطوطات التي كادت تنتهي بسبب الإهمال من عندنا، وهذه حقيقة لا يجب غمطها لهم، ولذلك من العدل أن نذكر ونتجاهل ما هو إيجابي في كتاباتهم، وما هو سلبي، وهذه مسألة لا بد من قولها، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، صدق الله العظيم.