١١٢٢
١١٢٢
أعمدة

التنظير السلبي

14 مايو 2020
14 مايو 2020

د. سالم بن محاد المعشني

لاشك أن التنظير من أولويات العلم، وهو في العلوم الإنسانية والاجتماعية بمثابة المادة الخام في العلوم التطبيقية. لكن عندما يزيد منسوبه على حساب التطبيق تظهر الإشكالية، وتطغى تلوينات الخارج والزركشات على حساب الجوهر والمضمون. لكن لماذا التنظير دون التطبيق أصبح في عالمنا ظاهرة مؤرقة؟ أنا لست محللا سياسيا ولاخبيرا اقتصاديا أو اجتماعيا، لكنني بين فينة وأخرى تتداعى إلى قلمي دون تربص موضوعات بعينها، لا أستطيع ردها، وعندما شرعت في اختيار عنونة هذا المقال - وفي ذهني تصور كاف لأبعاده وحدوده - وجدت جملة (التنظير السلبي) تقفز إلى سطر الكتابة؛ وكأنها تريد أن تضعني على الأمر الواقع. ينتمي التنظير في حقله الدلالي إلى (القول) وعندنا القول مقابل (للفعل) وشتان بينهما؛ ما أسهل القول! كلام يقدم لكل مستهلك أو متلق بالمجان، إنما الصعب هو (الفعل). هناك قرناء سوء تجدهم – غالبا – بمعية التنظير، منهم الشكل والعاطفة والجهل والتحيز والبيروقراطية، والمحسوبية، والانسيابية، والشفافية، والمرونة، واللباقة وهذه وغيرها من قرناء السوء – في حال تعطيل معانيها ومضامينها الداخلية والأخذ بأشكالها فقط – تعد بمثابة الفيروسات الخبيثة، التي تفتك بالمجتمعات وتزرع فيها بذور التضليل والخداع، وقلب الحقائق والمفاهيم. فلو أخذنا على سبيل المثال الشكل وهو طرف مهم في أي هيكل لعثرنا على ما لا يُحصى من الشواهد في عالمنا العربي التي تقر بتقديمه والاعتناء به على حساب الجوهر أو المضمون، ولو أردنا أن نسوق مثالا على ذلك لكفانا ما أورده شهود عيان الذين وجدوا مكتب مسؤول عربي يفوق – في مظهره ورونقه وسعته - أضعاف أضعاف مكتب قيادة حلف شمال الأطلسي (البنتاجون) الذي منه يُدار العالم !. أما العاطفة القرين الثاني للشكل فتبدو خطيرة جدا عندما لا تصمد حزمة من القوانين المنمقة شكلا أن تمنع مدير المصلحة من سوق المنفعة العامة لمن يشاء دون وجه حق وعلى حساب العاملين المخلصين والجهل عدو لدود، وملازم مخلص في زماننا للشكل؛ تبهرك عمامة فارهة تنوء بحملها جمجمة فارغة، بين يديها مصائر العباد!!!!

والتحيز عرق خطير وداءٌ مستعصي، هلك من جعل أرومته وعرقه السني فوق العالمين، ووزنه قد لا يساوي أجزاء من الريالات !!. أما البيروقراطية فقد تجذرت في عالمنا العربي، حتى غدت تجارة رائجة، وصارت مصالحها في مختلف القطاعات لا تُمس، والقائمون عليها الذين كانوا سابقا ينشطون في الظلام، أصبحوا يتباهون جهارى باحتكار المنافع العامة فيما بينهم، دون ثمة رقيب من ضمير، أو مسحة من حياء، ودوائرهم مسيجة بأسوار من الفولاذ ليس لهم سوى الكسب المادي، واحتكار الموارد ولأنهم متنفذون فقد سنوا القوانين التي تحمي تجارتهم البينية، لتصبح مع الأيام بمثابة العرف الذي يجب عدم المساس به.

أما المحسوبية فمبعثها العاطفة السلبية، وهي العدو اللدود للموضوعية والعلمية، وغايتها تأمين المنافع على اختلافها وتوزيعها بين الأقارب والأصدقاء، وحرمان البقية. وتتقاطع المحسوبية مع البيروقراطية والتحيز العرقي في كثير من وجوهها، حيث يقوم هذا الثالوث على خدمة فئات ونخب بعينها ارتبطت بنفوذ سياسي أو اقتصادي أوعرقي أوصلات اجتماعية كوشائج القربى أو عاطفة إيديولوجية ما. أما الانسيابية والشفافية والمرونة واللباقة فمصطلحات في ظاهرها الصلاح والخير، وهي كذلك إن أخذ بمضمونها وباطنها خارج شكلها ومعناها في اللغة، لكنها في عالمنا العربي – غالبا - على اعتبار أن العالم العربي لم ينتقل بعد إلى طور الموضوعية والعلمية، إنما لايزال يعيش الطور العاطفي السلبي الذي هو بمثابة الداء العضال، والمانع لكل تقدم إنساني ولكل إصلاح اجتماعي، فلا تزال هذه المصطلحات تفعل فعلها السلبي، وتؤدي دورها التدميري .

تمر على غلاة التنظير ودعاة التنميق سنوات مديدة دون أن يطال الفعل ذؤابة القول، شاخ الزمان ودالت ممالك والشكلانيون القدماء في عافية ورواء، يمخرون أروقة الدوائر صباح مساء وفي جيوبهم صدئت مفاتيح معتقة من أزمنة غابرة استحالت بالتواتر والعرف من منفعة عامة إلى تركة خاصة والشاهد أن أحدهم لم ينفض يديه من غبار مفاتيح مصلحة الوظيفة في ربيعه الأول بعد التسعين حتى قلد حفيده الثالث سلسلة من المفاتيح وعيون المحرومين ترمقه بلحاظ حمراء شزرات تحت أشعة النهار !!. لقد سرى الداء من القمة إلى القاع؛ والشاهد على المستوى القومي أناشيد الوحدة العربية من "الشام" لـ"تطوان" وأحلام التكامل الخليجي والاتحاد الأفريقي... وهلم جرا ذهبت كلها أدراج الرياح، ولم تصمد ساعة في مختبر التطبيق، والسبب يعود إلى بنائها القائم على أعمدة التنظير الشاهقة، المكتوب بمداد الأقوال دون الأفعال. ولو لم يهاجم فيروس التنظير السلبي بمعية أقرانه من المصطلحات العائمة بالفيروسات المؤذية جهاز المناعة لمنظومة الأمة العربية لما رأينا مثل هذا التشظي المخيف وهذا الاحتراب العصي على العقل الإنساني، ولما كانت معظم أقطار هذه الأمة تعيش مثل هذا التخلف المشين.