5656
5656
روضة الصائم

فتح مكة .. نقطة تحول كبرى في مسيرة الإسلام أسس النبي فيها أسمى القيم وأنبل الأخلاق

13 مايو 2020
13 مايو 2020

مواقف إنسانية عظيمة على المسلمين التحلي بها -

أجرى اللقاء - سيف بن سالم الفضيلي -

جوانب إنسانية كثيرة تجلّت في فتح مكة بقيادة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون لنا كمسلمين قدوة نقتديها ونسير على منهاجها، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا دخل مكة بتواضع عظيم مطأطئ الرأس شاكرًا لله تعالى نعمة الفتح المبين فلم يغتر عليه الصلاة والسلام بنشوة الانتصار - حاشاه - ثم أظهر خلقه العظيم في تقدير حالات الضعف البشري فقد عفا عن أهل مكة بقوله لهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» مع أنهم الذين خططوا لقتله عليه الصلاة والسلام وطاردوه وحاربوه لسنوات طويلة..

«اذهبوا فأنتم الطلقاء» خير دليل على أن رسالة الإسلام رسالة تسامح وتعايش وسمو وعلو وعفو -  

يقول الدكتور صالح بن سعيد الحوسني حول المواقف الإنسانية في فتح مكة: إنه مع عودة رمضان في كل عام تتراءى في أدهاننا مشاهد الفتح الأعظم وما يحويه من القيم والمواقف العظيمة التي لا ينبغي للمسلم أن يغفل عنها أو ينساها وهو يمخر عباب هذه الحياة، فالله تعالى يقول في شأن نبيه الكريم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ففي سيرة النبي الخاتم في جوانب حياته وأحواله في جميع شؤونه من سلم وحرب ومنشط ومكره وعسر ويسر، وحضر وسفر، .. في كل ذلك القدوة الحسنة فكان الواجب أن تكون صنائع النبي الخاتم حاضرة في أذهاننا وأن تكون أفعاله في ذروة التأسي والاقتداء فإنه لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).

وأضاف الحوسني: وإذا عدنا إلى تلكم الدروس وخاصة الجوانب الإنسانية التي يجنيها المسلم من حادثة الفتح الأعظم لوجدناها متعددة كثيرة، ومن ذلك: الوفاء بالعهد سمة الأنبياء والصالحين: لأن المتأمل في ظروف الفتح الأعظم يظهر له أن السبب المباشر لتوجه الرسول صلى الله عليه وسلم نحو مكة هو ما كان من اعتداء قبيلة بني بكر التي هي حليفة لقريش على قبيلة خزاعة التي هي في حلف المسلمين، وهو ما يعد خرقًا واضحًا في بنود الاتفاق ونقض العهد الذي كان في يوم الحديبية، وحاولت قريش تهدئة الأوضاع وتمديد الهدنة إلا أنه لم يقع ذلك ورجع أبو سفيان مبعوث أهل قريش صفر اليدين إلى مكة، عندها استنفر النبي أصحابه وجهز جيشًا عظيمًا يفاجئ به أهل مكة حتى لا يستعدوا لمواجهة المسلمين.

والسرية التامة حقنًا للدماء وتعظيمًا لمكانة البيت الحرام: وهو ما نراه واضحًا في إخفاء كل الوسائل والأخبار حتى لا يصل نبأ تحرك الرسول الكريم إليهم، حتى أن خبر توجه الجيش إلى مكة كان بعد خروجهم بمسافة من المدينة، وقد حاول حاطب بن أبي بلتعة أن يرسل رسالة إلى أهل مكة بخبرهم فيها بتوجه الرسول إليهم بواسطة امرأة ولكن عناية الله تداركت نبيه وأصحابه فتم إدراك الخطاب قبل وصوله إلى أهل مكة، ومع عظيم ما ظهر من خطأ حاطب إلا أن الرسول استمع إلى عذره وعفا عنه، وهنا يظهر خلق النبي العظيم في تقدير حالات الضعف البشري، مع مراعاة سابقته في الإسلام.

كذلك تواضع الرسول الكريم، وهو ما كان واضحًا في هيئته عليه الصلاة والسلام الذي لا يكاد لسانه يفتر عن ذكر الله وشكره وكان متاعه وعدته لا تكلف فيها، بل ونجد التواضع يصل إلى غايته وأقصاه لحظة دخول مكة، فقد كان شعر لحيته الشريفة يمس رحل الناقة تواضعًا وشكرًا لله تعالى وهو يقرأ سورة الفتح، فلم يدخل الرسول مكة - حاشاه - مزهوًا بانتصاراته رغم عظيم النصر والتمكين، كما وتحدثنا كتب السيرة أنه عليه الصلاة والسلام استلم الحجر بمحجنه كراهة مزاحمة الطائفين، وذلك حتى يعلم الناس أن كل النعم هي من عند الله (وما بكم من نعمة فمن الله)، وما أجمل أن يتواضع القائد فيظهر لبقية الجند أنه كواحد منهم من غير تمييز بل ويكون عليه العبء الأكبر في تحمل الشدائد والمحن.

ثم عفوه عليه الصلاة والسلام عن أهل مكة، مع أن أهل مكة هم الذين خططوا لقتله عليه الصلاة والسلام، وطاردوه وحاربوه لسنوات طويلة، وكان الموقف العادل أن يقتص الرسول منهم وأن يتخلص من أولئك المجرمين الذين استخدموا كل الطرق لمحاربته، ولكن رحمة الرسول كانت أعظم من كل ذلك، فقد مكّن الله لرسوله وفتحت مكة وسمع فيها صوت الأذان يتردد بين جنباتها، وتجمد الدم في عروق أولئك الذين كانوا له من أعظم الأعداء يظنون أنهم سينكل بهم أو يقتلوهم، أو يجعلهم رقيقًا له، وهنا يتجلى ذلك الموقف الذي لم تعرف له البشرية نظيرًا أو مثيلًا فقد قالت ملكة سبأ سابقا: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، وما كان هذا ليقع من نبي الرحمة والإنسانية، فقد خطب في أهل مكة قائلا لهم: «.. ما تظنون أني فاعل بكم»، قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء»، فلم يقتص الرسول من أهل مكة رغم تمكنه منهم وهكذا أخلاق النبوة تسمو على كل النعرات والهواجس النفسية لتقدم المثال الحي على سمو تلك الخصال والقيم النبوية وتقدم للبشرية نفحة من نفحات النبوة العظيمة.

النصر المبين

ويتحدث أحمد بن علي الحداد عن نقطة التحول العظيمة في مسيرة الإسلام الذي تجلى في فتح مكة فيقول: يعيش المسلمون في العشرين من رمضان من كل سنة حدثًا تاريخيًا مهمًا، وصفه الله سبحانه وتعالى بيوم الفتح والنصر المبين، أيد فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين من أعدائهم، وسخر لهم الأرض ومن عليها لهذا النصر، وهو فتح مكة.

فعندما فتح المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، قويت شوكتهم، ورجع المهاجرون إلى موطنهم وأهلهم، فأعزهم الله بالإسلام بعدما هُجّروا وأُخرجوا منها، وهي أحب البقاع إلى الله ورسوله وأطهرها، ففيها بيته العتيق وحرمها.

يعد فتح مكة من أهم التحولات العظيمة التي حصلت للإسلام والمسلمين، ففيه أسس النبي صلى الله عليه وسلم أسمى القيم وأنبل الأخلاق وأفضل الأمثال في البر والوفاء، ووضع مبادئ عظيمة للإنسانية جمعاء، وقبل هذا كله لا بد من النظر في الأسباب التي دعت لهذا الفتح المبين، وكيف أخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم الأسباب المادية والمعنوية تمهيدًا لهذا الحدث العظيم.

ويشير إلى أن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم اتبع عدة استراتيجيات قبل القيام بفتح مكة، وهو أعظم قائد عرفته البشرية صلوات ربي وسلامه عليه، خير من وطئ الثرى وحمل السلاح وجاهد في سبيل ربه، أفضل العقول تخطيطًا، أفصح العالمين بيانًا، وهو أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم، أولا عندما جاءه وفد خزاعة - حلفاؤه- وعلى رأسهم عمرو بن سالم يخبرونه بما فعلته قريش مع حليفتهم بني بكر من دعم وإمداد بالسلاح لقتال حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم بني خزاعة، وجاء القوم يطلبون نجدة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويبينون أن قريش نكثت العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما حدث غضب وقال صلوات ربي وسلامه عليه: «نصرت يا عمرو بن سالم...»، وكان هذا الموقف أول موقف أسسه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الوفاء بالعهد ونصرة المظلوم.

ويذكر الحداد أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في التخطيط في قيادة غزوة لفتح مكة لإعلاء كلمة الله ولتلقين قريش عاقبة نكث العهود وثأرًا لحلفائه بني خزاعة، فكتم أمر التخطيط عن أقرب الناس عليه، واستخدام سياسة الحرب خدعة في إيهام الأعداء ببعثه بسرية جنود إلى موقع آخر، واستخدم صلوات ربي وسلامه عليه العيون لمراقبة الأوضاع حتى لا تفشل الخطة المعدة لغزوة فتح مكة، وتوجهه لخالقه جلّ في علاه بطلب النصر على قريش، فكل هذه التدابير والأخذ بالأسباب المعنوية والمادية أثبتت نجاحها في الغزوة ومن هذه الأمثلة ضبط الكتاب الذي بعثه حاطب بن أبي بلتعة لإخبار قريش بنية النبي صلى الله عليه وسلم غزوهم.

ويوضح الحداد أنه عندما نعرّج إلى أحداث غزوة فتح مكة لا بد أن نتمهل قليلًا ونذكر بعض القيم الإنسانية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم وضرب للمسلمين الدروس فيها وهذه القيم التي تعد نقطة تحول عظيمة في تاريخ الإسلام، ومنها أن في هذه الحادثة بيانًا لعاقبة من ينكث العهد بالذل والخذلان، كما كان عاقبة نكث قريش لعهدها بأن الله أذلهم، وخسرت قوتها وكيانها، وضرب كذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم خير مثال في إقالة العثرة لمن لهم الفضل والتقدير والسبق في فعل الخير وشهوده، ومن أولئك عفوه صلى الله عليه وسلم عن حاطب رضي الله عنه، وكذلك إنزال الناس منازلهم ولو كان عدوًا، أو من غير ديننا مثلما فعل مع أبي سفيان وقوله صلى الله عليه وسلم تعزيزًا له ولمكانته في قومه «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن...» ومن أهم التحولات والآثار لهذه الحادثة هي خير دليل على كمال النبي صلى الله عليه وسلم في قيادته للجيش، وأنه بيان لتواضعه صلوات ربي وسلامه عليه، فعندما دخل مكة، دخلها متواضعًا وخافضًا لرأسه مستشعرًا بتأييد الله له فكان يقرأ سورة الفتح ويشكر ربه ويحمده على فضله وتمكينه لمكة، وعندما تمكن من قريش فما زاد عن قوله صلى الله عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وهم ألد أعداء الإسلام وفعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وهذا خير دليل على أن رسالة الإسلام رسالة تسامح وتعايش وسمو وعلو وعفو، ولهذا يجب على المسلم أن يستمد من هذه الأحداث ما يعينه في أمر دينه ودنياه، وأن يجتهد في التحلي بالأخلاق المحمدية أكمل الخلق، خَلق وخُلق، والذي تضرب لنا سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم أسمى الأمثلة في كل مجالات الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.