عبدالرزاق
عبدالرزاق
أعمدة

هوامش...ومتون: الرهانُ الذي علينا كسبه

13 مايو 2020
13 مايو 2020

عبدالرزّاق الربيعي

[email protected]

كلّنا نحتاج فترات خلوة مع النفس، و"السعيد من خلا بنفسه" كما قالوا، وأذكر أنّ أحد الأصدقاء الفنّانين العراقيين اعتاد أن يختفي بين وقت، وآخر دون أن نعرف شيئا عن سرّ اختفائه، حتّى سألته ذات يوم، وعرفت أّنه يذهب إلى مكان منعزل في أحد الجبال، ليختلي بنفسه، ومن شروطه عدم سماع صوت، حتّى الطعام يدخله إليه القائمون على ذلك المكان المعدّ لذلك الغرض من شقّ في أسفل باب صومعته، ولا يتعدى ذلك الطعام غير الخبز، والماء، ويمكث هكذا أيّاما، يتأمل، ويقرأ القرآن الكريم، ويسبّح، وعندما يشعر بالاكتفاء الذاتي ينهي خلوته، ويغادر صومعته، ويعود إلى صخب المدينة، بعد أن نقّى أحاسيسه، وجدّد طاقته الروحيّة!

ويمكن لتجربة نخوضها مكرهين، أن تحدث انعطافة في حياتنا، من ذلك ما جاء بمقال للكاتب عصام أبو القاسم عن المسرحي زكي طليمات الذي دخل الحجر الصحي مع والدته التي أصيبت بحمّى التيفوئيد، فطلبت منه إدارة معهد التربية الذي كان يخطط للعمل به معلما " ألا يحضر إلا بعد مرور أكثر من شهر على شفاء والدته، لئلا تنتقل العدوى عبره لطلاب المعهد، فاضطر للبقاء في المنزل، ولما لم يكن لديه ما يعمله شرع في كتابة نص مسرحي، وأعجبت فرقة جورج أبيض بالنص، وقبلت تنسيب كاتبه إلى عضويتها، بعدما كانت مترددة في قبوله. لم يرجع طليمات بعد شفاء أمه إلى المعهد، بل واصل في المجال المسرحي".

في الأدب لدينا نماذج كثيرة، فبطل رواية "القلعة الخامسة" للشاعر فاضل العزاوي، عزيز محمود سعيد القادم من كركوك لبغداد، يعتقل مصادفة لجلوسه في مقهى مشبوه، فسُجن، وفي داخل السجن يحدث تطور نوعي في شخصيته، فيقول هذه الجملة المضيئة"في اللحظة التي نؤمن فيها بأن شيئا ما قد انتهى يكون ذلك الشيء قد بدأ لتوّه"، ورغم الظروف القاسية التي مرّ بها البطل اكتسب تجارب جديدة في الحياة، فالشخصيات التي تعرّف عليها في سجنه، نقلت شخصيته إلى آفاق لم يكن يصل إليها لو لم يتعاط مع تلك التجربة القاسية بروح إيجابيّة.

وفي قصة "الرهان" التي كتبها أنطوان تشيخوف سنة 1889 يدخل أحد المحامين رهانا مع صيرفي، بدأ بسؤال هو: هل عقوبة الإعدام أفضل من السجن المؤبد؟ أم العكس؟ فيرى الصيرفي أنّ الإعدام أكثر إنسانية من السجن المؤبّد، فيخالفه المحامي الرأي، ويرى أنّه يفضّل السجن على الموت، فيدخل رهانا معه، ويقبل المحامي سجن نفسه خمس عشرة سنة، مقابل أن يدفع له مليون روبل، وبعد أن تمّ الاتفاق بينهما حبس المحامي نفسه في غرفة صغيرة، حسب الاتفاق، فشعر بادئ الأمر بالوحدة، والاكتئاب، وفكّر عميقا، ووجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يتعايش مع الظرف الذي وضع نفسه به، أو يخسر الرهان، فاختار الأول، وبالطبع شعر في الأيّام الأولى بالضيق، ولكي يخرج صاحبنا من دوّامة الفراغ، والضيق، بدأ يزجي وقته بدراسة اللغات، ثمّ قراءة مختلف العلوم، وكان كلّما يقرأ يزداد شغفا، فالكتب تغريه بقراءة كتب أخرى، حتى أنهى 600 مجلد خلال أربع سنوات، ولأنّه كان في بداية مشواره، لذا طوّر مهاراته، وهواياته، فتعلّم العزف على البيانو، والكتابة، ودرس العلوم الطبيعية، والفلسفة، وهكذا أمضى بقيّة السنوات، حتّى شارفت المدّة المقرّرة على الانتهاء، وهو سابح في فضاءات معرفيّة واسعة، وقبل ذلك بيوم واحد، قرّر الصيرفي قتل المحامي في غرفته، لأنّه خلال تلك السنوات خسر ثروته على لذّاته، ولم يبق معه إلّا القليل، وخشي من الإفلاس، فيما لو خسر الرهان، وبالفعل ذهب إليه، ولكنه قبل أن يفعل فعلته، فاجأه المحامي برسالة كتب فيها أنه تعلّم من عزلته أن يحتقر الماديات، وعرف أنّ المعرفة أهمّ من المال، لذا يتنازل عن مال الرهان للصيرفي، ولكي يسقط حقّه في الرهان، خرج قبل ساعات قليلة من الموعد المتفق عليه، ليخسره، ويحفظ ما تبقى من أموال المصرفي، لأنه كسب شيئا أهم من المال هو استثماره لوقته في تطوير الذات، وبذلك كسب الرهان بطريقة أخرى.

وأفضل ما يفعل المرء في ظلّ الظروف الحالية هو مراجعة الذات، والخلوة إلى النفس، والقراءة، يقول أحمد بن عطاء الله السكندري "ما نفعَ القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة" فالفكرة برأيه " سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له"، فلنجعل قلوبنا ميادين للأفكار، ونحن بعزلتنا التي فرضت علينا تجنّبا للضرر الذي قد يصيبنا، ويصيب المجتمع جراء التخالط الاجتماعي، وحين تنتهي الأزمة، نكون قد كسبنا رهاننا مع أنفسنا.