22
22
روضة الصائم

منذر السيفي: الصيام يولّد في النفس الشعور الصادق مع الفقراء والمحتاجين والمحرومين

11 مايو 2020
11 مايو 2020

مبينا أن الأمة بحاجة إلى مراجعة تعظيمها لشعائر الله وحرماته -

التقــــــــــــــاه: سالم الحسيني -

كان الرسول الكريم وصحابته الميامين ‏وسلف الأمة يقدرون لرمضان قدره ويرفعون مقامه ومنزلته ويستقبلونه بالبشر والسرور ويبتعدون عن كل ما يؤدي إلى فساد صيامهم.. ومن ‏حكم الصيام‏ وفلسفته أنه‏ يولّد ‏في النفس ‏الشعور الحقيقي ‏والتفاعل ‏الصادق ‏مع‏ الآخرين ‏من الفقراء والمحتاجين والمحرومين، ومن حكمه تحقيق التقوى التي لا يمكن أن تتحقق إلا بترابط النفوس وجمع الكلمة ووحدة الصف عملًا بقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).. ذلك ما بيّنه منذر بن عبدالله السيفي الواعظ بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذا اللقاء.. مبينا أن من عرف الله - عز وجل - حق المعرفة عظّمه، ومن عظّمه، عظّم ما جعله معظمًا ووقف عند حدوده، وأن من تأمل معاني الصيام، ثم نظر إلى أفعال الخلق تجاه هذا الشهر العظيم، ‏يجد أن الأمة بحاجة إلى مراجعة تعظيمها لشعائر الله تعالى وحرماته.. تفاصيل اكثر في اللقاء التالي:

❁ حدثنا بداية عن عظمة شهر رمضان وعن فضل صيامه وقيامه والبذل فيه؟

شهر رمضان شهر شهر الحسنات والقربات والغفران وهو شهر ليس كمثل سائر الشهور ولا فضّلت به أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور، والذنب فيه مغفور ‏والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور وقلب المؤمن بذكر الله مغمور، فصومهم مفروض بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا».

‏والصيام عمل سري وقصد قلبي، فهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره. ‏وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن وسائر الكتب السماوية قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، وجعله محلًا لشعيرة من أعظم شعائر الإسلام ألا وهي الصيام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وجعل فيه ليالي العشر خيرًا وأعظم ليالي العام، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).. ‏وهو شهر شعائر الله من الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن وليلة القدر كلها من شعائر الله تعالى. والله عز وجل يقول: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، فمن عرف الله - عز وجل - حق المعرفة عظّمه، ومن عظّم الله، عظّم ما جعله الله معظمًا ووقف عند حدوده فمنع لسانه من الغيبة والنميمة وعينيه من النظر إلى ما حرم الله من مسلسلات تظهر فيها نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات وجوارحه ‏عن المعاصي والذنوب، فمن تأمل معاني الصيام، ثم نظر إلى أفعال الخلق تجاه هذا الشهر العظيم، ‏يجد أن الأمة بحاجة إلى مراجعة تعظيمها إلى شعائر الله تعالى وحرماته..

‏إن شهرًا جعله الله شهر القرآن والصيام والذكر والتسبيح أحاله قوم منا إلى شهر المسلسلات والترفيه بل إن شهرًا جعله وقتًا للتغيير إلى الأفضل وإصلاح الحال، جعله بعض المسلمين شهرًا يريدون فيه تغير الأمة وإبعادها عن دينها وقيمها عبر ما ينتجون من مسلسلات وبرامج بعيدة كل البعد عن الفائدة والمنفعة، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام ‏وسلف هذه الأمة يقدرون لرمضان قدره ويرفعون مقامه ومنزلته ويستقبلونه بالبشر والسرور والفرحة والتهنئة ويبتعدون عن كل ما يؤدي إلى فساد صومهم من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان ويحفظون جوارحهم من الوقوع في الحرام.

فالأمة لن تقوم لها قائمة وفيها من يستهتر بشعائر الله ويتهكم على حدود الله - عز وجل - ولا يعيرها اهتمامًا فلا جهاد للعدو إلا بعد جهاد النفس وكبحها عن الحرام فلن تعود مقدسات المسلمين إلى رحابهم إلا إذا عادوا إلى ربهم فالنصر لا يكون إلا بالانتصار على النفس. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). ‏وحينما شرع الله الصيام وجعله من أركان الإسلام ليس الغرض منه تكليف العباد ما لا يطيقون وإنما من أجل أن يضاعف لهم حسناتهم ويتجاوز ‏عن سيئاتهم ويتعلمون من خلاله الصبر ويتذكرون إخوانهم المسلمين وما يعانونه من الجوع والفاقة على مدار السنة ‏فيخرجون زكاة أموالهم وصدقاتهم لتكون لهم أجرًا ‏عند الله وفرصة للدعاء حيث يدعو الفقير ربه أن يبارك الله تعالى في مال هذا الغني وفي أولاده وذريته.

ما هي فضائل الصوم وفوائده؟

إن للصوم فضائل كثيرة وفوائد عظيمة ومزايا كبيرة تدل على مكانته وأهميته وهي إما عامة لجميع أنواع الصوم أو خاصة في بعض أنواعه ومن فضائل الصوم أنه جنة: أي وقاية وستر من عذاب الآخرة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ‏وأن امرؤ سابه أو قاتله فليقل : إني صائم»، ومعنى جنة أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات وقال القرطبي: جنة أي: ستر. وقال: ابن عربي: إنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات.. وبما أن ثواب الصائم اختصه الله تعالى لنفسه فلا بد أن يكون الجزاء عند الله ‏عظيمًا وقد جعل الله تعالى جزاء الصائمين دخول الجنة فقد جاء في الحديث عن سهل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد. ومن فضائل الصوم أنه سبب لاستجابة الدعاء وفي الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «‏ثلاث حق على الله أن لا يرد لهم دعوة الصائم حتى يفطر والمظلوم حتى ينتصر والمسافر حتى يرجع»، وفي حديث آخر يقول - صلى الله عليه وسلم - «إن للصائم دعوة عند فطره لا ترد»، والصيام في حد ذاته يعد من مجالس الذكر فكيف إذا عطر بالدعاء. ‏

ولحب السلف الصالح لشهر رمضان الذي ترفع فيه الدعوات كانوا يدعون الله ستة أشهر ليبلغهم رمضان وذلك لما يعلمون من فضله ومكانته العظيمة فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو يعلم العباد ما في رمضان - أي من الخير - لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان».

ومن الفوائد التي يجنيها الصائم في شهر الصوم الشفاعة فالصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة فعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ‏«الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام: أي ربي إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان».

❁ لو تحدثنا عن حكم الصوم وفلسفته في الإسلام؟

إن فهم فلسفة شهر رمضان يقتضي العودة إلى الكيفية التي تحدث بها القرآن الكريم عن شهر رمضان، فالله تعالى شرع لنا الصيام من أجل مراجعة النفس الأمّارة بالسوء، ومن بلاغة القرآن أنه لم يذكر شهر رمضان بكونه ‏شهر إمساك عن الطعام وملذات الدنيا وإنما بكونه شهر القرآن بل إن كلمتي الصيام المذكورتين في سورة البقرة حددتا الغاية من الصيام ومن رمضان ككل على اعتبار أن رمضان إطار زمني عام ‏والصيام إطار زمني خاص من فجر اليوم إلى وغروبه حددتا الغاية بالتقوى، فلا يمكن للإنسان أن ينجو إلا بالتقوى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» ولذلك الصيام إمساك عن المعاصي والرذائل والأفعال السيئة وعلى المسلمين جميعًا ‏أن يتعاونوا على التقوى لأن التقوى لا ترى إلا في التعامل. والله عز وجل يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فلا يمكن أن يكون هنالك تقوى وهنالك فرقة وخلافات بين المسلمين وإنما التقوى تتحقق عندما تترابط النفوس، عملًا بقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، فكيف تتحقق التقوى وهم يقتلون بعضهم بعضًا ‏ويسفكون دماء بعضهم بعضا ويهتكون أعراضهم بأيديهم ويخربون بيوتهم بأنفسهم. فالتفرق والتشرد ذم لا يأتي بخير بل ‏يجعل الأمة متباغضة ومتدابرة.. مشيرا إلى أن الأمر بتقوى الله تعالى ‏هي وصية الله للأولين والآخرين يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)، فمن يعمل بوصية الله فقد فاز ونجح وذلك هو الفوز العظيم ومن ترك هذه الوصية العظيمة فقد خاب وخسر وذلك هو الخسران المبين.

وقد عرف سيدنا عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- التقوى بقوله: «هو أن يطاع فلا يعصى ‏وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر». ‏وسئل الإمام علي - كرّم الله وجهه - عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل». ومن فوائد التقوى كما بيّنها القرآن الكريم: النجاة من الشدائد وسهولة الحصول على الرزق من وجهة لا تخطر على بال إنسان، وصدق الله حين قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).. قال مجاهد كنت عند ابن عباس -رضي الله عنه- فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأتَهُ ثلاثًا فسَكَتَ حتَّى ظننتُ أنَّهُ سيردُّها إليهِ فقالَ ينطلقُ أحدُكُم فيركبُ الأحموقةَ ثمَّ يقولُ يا ابن عبَّاسٍ يا ابن عبَّاسٍ!! واللَّهَ تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)، وإنَّكَ لم تتَّقِ اللَّهَ فلا أجدُ لَكَ مخرجًا عصيتَ ربَّكَ وبانت منكَ امرأتُكَ.

ومن فوائد الصوم كذلك: يحفظ الله الأمة من الأعداء بشرط أن يتحلى أبناؤها بالبر والتقوى، قال تعالى: «وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا . إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» ولو اتصفت الأمة بتقوى الله في أقوالها وأفعالها وأعمالها لكبت الله مكر ‏أعدائها وخلّصها مما هي فيه ‏من‏ ذل. ومن فوائده كذلك: قبول العمل قال تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين)، ‏فمن أخلص نيته تقبل الله‏ عمله. ومن فوائده أيضا: محبه الله تعالى ‏ورضوانه قال تعالى: (‏إن الله ‏يحب المتقين) وهذه المكانة العالية لا ينالها ‏إلا من جعل التقوى لباسه (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).. ‏ومن ‏حكم الصيام‏ وفلسفته أنه‏ يولّد ‏في النفس ‏الشعور الحقيقي ‏والتفاعل ‏الصادق ‏مع‏ الآخرين ‏من الفقراء والمحتاجين والمحرومين. فعلى المسلمين أن يتقوا الله تعالى وأن يجعلوا من رمضان موسمًا لفعل الخيرات والتنافس فيها وأن يكون انطلاقة خير يتركون من خلاله التباغض والتدابر ‏وعلى المسلمين جميعًا أفرادًا وجماعات أن يحسنوا استغلال رمضان في ما يعود عليهم بالفائدة وأن يكثروا من الطاعات والنوافل ويعظّموا شعائر الله تعالى.