أفكار وآراء

هل أزماتنا سببها غياب العقلانية؟!

09 مايو 2020
09 مايو 2020

عبدالله العليان -

مع بداية النهضة الحديثة التي أقامها الغرب، وأهمها عصر الصناعة الذي كان قفزة كبيرة في عالم الصناعات الحديثة، ثم جاء العصر التكنولوجي المتعدد الجوانب، الذي تلا هذا النهوض الكبير، وبرز حينئذ الفارق الهائل بيننا وبين العالم الغربي، في أغلب الميادين العلمية والتقنية، ولا نريد أن نشرح أسباب هذا الفارق فهذا سيكون له حديث آخر، وبدأ بعض الباحثين والمستشرقين الغربيين الذين، سبقوا الحملة الاستعمارية وبعدها، في ترويج مشكلة التخلف القائم، بأنه يرجع إلى أزمة العقل العربي، وجموده وثباته على عقل التراث الماضي، وتأثر بعضٌ من أبناء جلدتنا بهذه المقولات والأفكار التي لا تخلو من مخططات مسبقة، وأهداف لاستتباع الأمة، وجعلها أسيرة هذه النموذج الغربي والالتحاق بتراثه الفكري والفلسفي الفكري الحديث، وأشاع هؤلاء بأن أزمتنا الحضارية القائمة، سببها بنية العقل العربي، الذي لا يزال جامداً على العقل القروسطي، أو الاعتماد على النص الديني وغيرها من المبررات التي اعتُبرت السبب في هذا التخلف والتراجع الخ، ولا شك أن هذه الآراء انبثقت بسبب التأثر بالفكر الغربي وببعض المفكرين الغربيين، وبسبب الانبهار، أو الصدمة الحضارية مع الغرب، ولذلك فإن بعضا ممن فتنوا بتقدم الغرب، لم يجدوا حرجا في القول إن العقل الغربي عقل كوني، في ظل حضارة عالمية واحدة، ومن هنا يجب أن نقتفي أثره وان ننفتح عليه والاندماج فيه، ولا سبيل غير هذا الطريق الذي يجب السير في نهجه، إذا ما أردنا أن نؤسس عقلانية حديثة وحداثية، تواكب العصر الجديد في انطلاقاته الفكرية، ونتجاوز فكرنا التقليدي الذي يحكمه العقل التراثي !.

لكن هذا القول، أو هذا الاعتقاد، لا يستقيم، وحقيقة الواقع العربي المعاصر، سواء كان هذا الأمر قديما أو معاصراً، ولا يمكن أن تستعير الأمة عقلاً أو فكراً من خارج رؤيتها ومنهجها وطريقة حياتها، ليتحقق لها التقدم والنهضة المنشودة، من خلال تقليد الغرب ومحاكاته فيما آل إليه هذا العقل في مسيرته الفكرية والفلسفية، واستنار به في نهضته الحديثة، لكن الإشكالية أن هذه العقلية ليس لها حاضن فكري، عندما تتنصل من مقومات فكرها وقيمها ووعيها، والدليل على ذلك أن الحضارة العربية/‏‏ الإسلامية، وهي الحضارة عالمية، انطلقت من ذات فكرها وقيمها، ولم تفعل القطيعة مع هويتها وتراثها الفكري ومقومات وجودها، كالذي يقوله البعض من مثقفينا العرب والمسلمين، ممن تأثروا في عصرنا الراهن بالغرب إلى حد تقليده حتى في طريقة حياته العادية التي لا تستحق المحاكاة! بل استلهمت مقومات حركتها في الحصول على النهضة من ثقافتها، ومن دينها ومن عقول أبنائها المبدعة، صحيح أنها تفاعلت مع الحضارات السابقة، واستفادت مما لديها من العلوم والمعارف، وهذه سمة معروفة بين كل الثقافات والحضارات، في الأخذ والعطاء، لكنها هضمت واستوعبت المناهج والأسس التي قامت عليها هذه الرؤى والأسس الحضارية، وتمسكت بفكرها وقيمها ولم تتحلل مما لديها من موروث فكري وقيمي، وهذا جاء تجسيداً لما تملكه من قيم في هذا الأمر، وهذا لم يأت جزافاً أو لحظة عابرة حصلت في ذلك الزمان، بل جاء استلهاماً من أول آية نزلت على هذه الأمة من القرآن الكريم، وهي سورة العلق، (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، فمن خلال الإيمان الديني، جاء النظر العقلي، مواكبا لهذا الانطلاق، من خلال اتخاذ المعرفة طريقاً ومساراً للتقدم العلمي بالعقل، للبحث والتنقيب والنظر والاستقصاء، وهناك الكثير من آيات القرآن الكريم، تدعو للتدبر والتأمل، لاستنباط السنن الكونية، فتحقق النجاح لهذه الحضارة التي استفادت منها الحضارة الغربية المعاصرة، فالحضارة الغربية أخذت وتفاعلت مع الحضارة العربية /‏‏ الإسلامية، لكنها لم تتخل عن قيمها وتراثها الفكري المسيحي، وهذه مؤلفات بعض الباحثين الغربيين أنفسهم تحدثت عن ذلك، سواء في تقديرهم لهذه الحضارة العربية العالمية، أو كيف استفاد الغرب من هذه الحضارة في الكثير من العلوم والمعارف، وحدود الأخذ والاقتباس كما هي سنن الحضارات المتعاقبة.

لكن حدث العكس من بعض مفكرينا ومثقفينا العرب، عندما انفتحوا على التقدم الغربي، فأصابهم الانهيار الفكري نتيجة انبهارهم بما وجدوه لدى الغرب، وأصبحوا مثل الترس في الآلة تتحرك دون وعي، ومن هنا أرادوا ـ وقال بعضهم بالفعل، يجب أن نكون جزءاً من هذا العقل الغربي في رؤيته ومنهجه وسلوكه ونسايره فيما انتهجه في مسيرته الفكرية والعقلية والسياسية لتقليده ومتابعته، وكتبوا هذا في مؤلفات ودراسات، أنه لا يتأتى لنا الوصول إلى الغاية المنشودة، إلا إذا ـ كما سماه أحدهم ـ بـ (طي الصفحة)، أو القطيعة، والتجاوز، والالتحاق بالرؤية الغربية العقلانية ولا شيء غير ذلك، وهذه بلا شك نظرة قاصرة، وغير واقعية، ولن يحصل التقدم وفق هذه التوقعات، كعقلية التقليد والمحاكاة والاستيراد، ولن تُقام لنا حضارة ولا نهضة وفق هذا المفهوم، بل هي نظرة غير عقلانية، أو كما يسميها المفكر العربي المعروف د. محمد عابد الجابري «باللاعقلانية»، وهو ما أكد عليه د. حسن حنفي أيضاً في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب)، إن الفكر في ثقافتنا المعاصرة: «العالم هو الذي يعلم التراث الغربي، والعلم هي المعلومات الوافدة من الغرب، بل ولا يستطيع الإنسان أن يكون مجدداً إلا إذا تعلم الوسائل الغربية، أصبح العلم نقلاً، والعالم مترجماً، والمفكر عارضاً لبضاعة الغير، ووجدت طبقة هشة من الأفكار والمذاهب والنظريات طائرة فوق الواقع لا هي مستمدة من الموروث القديم ولا نابعة من الواقع المباشر وتنظير له». ص(53).

فهذه الرؤى، المنطلقة من بعض مفكرينا العرب، الذين اعتقدوا أن المحاكاة والتقليد، سيجلبان لنا التقدم المأمول، من خلال التنصل مما لدينا من رصيد فكري وحصاري، لا تستقيم وحقائق الواقع في أي أمة من الأمم، التي تريد أن تخطط لنفسها النهوض والتقدم، ودول آسيا ونمورها، من الدول التي جمعت بين رصيدها الفكري والثقافي، والسعي واللحاق بركب التقدم، وتحقق لها ذلك الهدف مع احتفاظها بما لديها من تاريخ وقيم، وبالعكس، إن الأمم تحتاج إلى النظر لماضيها بنظرة عقلية واعية تأخذ منه العبر، وتقيس عليه الكثير من قيم التقدم والمعرفة، لتأخذ منه ما تراه إيجابيا وصالحا في طريقها إلى المستقبل.