أفكار وآراء

كفاءة الحكومات.. حائط الصد من المخاطر القومية

09 مايو 2020
09 مايو 2020

د. عبدالعاطي محمد -

لقد أصر مفكرو الغرب على أن الكفاءة والأداء الرفيع هما من خصائص هذه النظم الغربية وحدها، وعلى الآخرين تطبيق هذه الخصائص على أنفسهم إن أرادوا النجاح في مواجهة المخاطر القومية، ولكن في ضوء ما جرى فإن انعدام الكفاءة من جانب هذه النظم ما كان يحدث لولا وجود خلل كبير في هذه الخصائص يتعلق بوجود مسافة كبيرة بين ما يتم ترويجه من قيم وما يتعلق بالأداء أو الفعل.

على هامش متابعة ما تسببه جائحة الكورونا يوميا من خسائر في الأرواح، ودخول المختبرات العلمية في سباق مع الزمن للتوصل إلى علاج سريع وأيضا إلى لقاح مضمون النتائج، وبنفس درجة الاهتمام إن لم يكن أكثر ينشغل الناس بحاضر ومستقبل الدول والحكومات على ضوء هذه الفاجعة. وفي هذا الإطار تحظى النظم الغربية بنصيب الأسد من التساؤلات عن الأسباب التي جعلتها تعجز أكثر من غيرها عن مواجهة الكارثة، بينما كان من المفترض أن يحدث العكس بحكم ما روجت له أدبياتها على مدى الزمن، بأنها الأكثر كفاءة وقدرة على تجنب المخاطر القومية، سواء في وقت السلم أو الحرب.

فرانسيس فوكوياما المفكر الأمريكي الشهير وأستاذ الاقتصاد السياسي أدلى بدلوه في هذه القضية في مقال كتبه على موقع «ذي أتلانتك» 30 مارس الماضي ونشر موقع «إندبندانت عربية» ترجمة له في 25 أبريل. ومع أن المقال ركز على رؤية كاتبه لأداء الإدارة الأمريكية في مواجهة الجائحة، إلا أنه تضمن تقويما لأداء الحكومات الغربية وديمقراطياتها الليبرالية، بما يسمح باعتباره نموذجا لرؤية غربية، من أهل البيت والأجدر على التوضيح، تفسر أسباب العجز وتفتح الباب للمناقشة الجادة عن مصير الديمقراطيات الغربية مستقبلا، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها. ودون الدخول في تفاصيل المقال، لكونه متاحا للكافة، أراد الرجل من البداية أن يستبعد المقارنة الجارية بين ما يسمى بالنظم الاستبدادية وتلك الديمقراطية وقدرة كل منهما على مواجهة الوباء. والمعروف أن كثيرا من الكتاب والمحللين خصوصا في منطقتنا العربية سارع منذ اللحظة الأولى إلى وضع القضية على هذا النحو متبنيا الاستنتاج بأن ما ظلت النظم الغربية تتهمه بأنه استبدادي هو الذي نجح في السيطرة والخروج النسبي على الأقل من الكارثة، بينما من ظلوا يصفون أنفسهم بالنظم الديمقراطية هم الذين فشلوا في المعركة. وذهب هؤلاء بعيدا إلى حد أنهم حسموا مصير العالم المعاصر من الآن مؤكدين أن الديمقراطية الغربية الليبرالية قد انتهت أو أفل نجمها، والمستقبل لخصومها!!.

وكان فوكوياما على حق وهو يؤكد على ضرورة رفض هذه الثنائية، ليس فقط لأنه لم تثبت بعد هذه التقديرات بحكم أنها متعجلة، فلا هكذا يكون تغير أحوال الأمم والأنظمة السياسية في لحظة خاطفة مهما تكن قوتها في إحداث التغيير، وإنما لأنها رؤى مما توصف بأنها «رغبوية»، أي تعبر عن أمنيات لأصحابها انطلاقا من معتقداتهم السياسية بالدرجة الأولى وليس بناء على فهم حقيقي للواقع. وبدلا من هذه المقاربة لفهم ما جرى، قال فوكوياما في مقاله إنه يتعين النظر إلى القضية من منظور القدرة والكفاءة من جانب الدول والحكومات المختلفة أيا كانت طبيعة نظمها السياسية.

ومع أن هناك تباينات في الأداء داخل أي تصنيف لطبيعة النظم، إلا أن المفكر الأمريكي جزم بأن الديمقراطيات الغربية وفي المقدمة منها الولايات المتحدة فشلت في مواجهة الوباء لأن أداءها اتسم بعدم الكفاءة من جانب الحكومات وبعدم القدرة على تجميع الطاقات التي في متناول سلطة الدول لتوجيهها بحرفية وقوة لكسب المعركة مع الوباء. عمليا يركز المفكر الأمريكي على ما يسميه الأداء الرفيع وليس على نوع النظام. ولمزيد من الشرح يوضح أن النظم السياسية تحتاج إلى تفويض السلطة التقديرية لأذرعتها التنفيذية في أوقات الأزمات، حيث لا يمكن للأجهزة التشريعية ولا للقوانين السائدة أن تساعد الدولة وحكومتها في التعامل سريعا مع أزمات غير معروفة على وجه الدقة لا طبيعتها، ولا حدود خطورتها، فضلا عن كونها مما يوصف بالمخاطر القومية. في هذه الحالة لابد أن تكون هناك حرية حركة للسلطات التنفيذية المختلفة من أعلى مستوى إلى الأدنى، شرط أن يكون المسؤولون من أهل الاختصاص المعروف عنهم الخبرة والكفاءة والنزاهة. هذا يحقق ما يؤكد عليه المفكر الأمريكي بأنه الثقة من جانب المواطنين في الحكومات عندما تكون هناك نازلة مثل وباء الكورونا. ويضيف أن الثقة تحتاج أيضا إلى أن تكون متوفرة في أعلى الهرم السياسي أي الحاكم. ويخلص إلى أن مشكلة الولايات المتحدة مع هذا الوباء تتركز في انعدام الثقة في أداء الإدارة الحالية أي إدارة دونالد ترامب. وعزز تقديره هذا بعدة ملاحظات تتعلق بالأسباب التي جعلت هذه الإدارة تفتقد لثقة المواطن الأمريكي، لا تخرج عما هو معروف من انتقادات سابقة لهذه الإدارة.

إلى هنا يبدو فوكوياما محقا في رؤيته للمأزق الذي وجدت الإدارة الأمريكية نفسها فيه، ولكنه بما أنه عمم التشخيص ليشمل بقية الحكومات الغربية، فإنه بذلك يضعنا أمام القضية الأكبر وهي مصير الديمقراطيات الغربية في ضوء جائحة الكورونا، أو بالأحرى الإجابة على السؤال الكبير: أين الخطأ؟، هل هو في صميم بنيان هذه الديمقراطيات، أم في أداء حكوماتها في بعض الأوقات، هل ما جرى نهاية فعلا لهذا البنيان، أم هو تطور مؤقت أو طارئ، وسرعان ما تستطيع هذه النظم لملمة نفسها والانطلاق مجددا أفضل مما كانت عليه؟.

ومن واقع المقال لا يبدو فوكوياما قد وضع نفسه في جانب المشكك في قدرة بنيان الأنظمة الغربية الديمقراطية، وإنما يريد تقديم إجابة دفاعية ومرضية لأنصار هذه الأنظمة لا تجعلهم يتشككون فيها، وإنما يوجه الاتهام للحكومات الحالية تحديدا مركزا على ما وصفه بالعجز عن القيام بالأداء الرفيع. وبقدر من التأمل يسهل التبرير للمفكر الأمريكي لاتخاذه هذا الموقف، ولكن بنفس القدر من التأمل يصعب الاتفاق معه لأن المأزق الذي وجدت النظم الغربية نفسها فيه له معطياته الحقيقية الدافعة إلى المراجعة والتغيير شاء الرجل أم أبى.

نعلم جيدا أن شهرته اكتسبها من كتابه «نهاية التاريخ» الصادر 1992 والذي جاء بناء على مقال كان قد كتبه بنفس العنوان 1989بمجلة ناشيونال انترست. وفي هذا الكتاب جزم فوكوياما بأن الديمقراطية الغربية الليبرالية هي أفضل ما توصل إليه الفكر البشري السياسي ولن تأتي بعدها أيديولوجية أخرى، حيث لا يوجد بديل يحقق نتائج أفضل منها، إنها الصيغة النهائية للحكومة البشرية. ولا شك أنه بنى تصوره هذا مثل معظم المفكرين الغربيين على انهيار النظم الشيوعية وانتصار الديمقراطية الغربية في شقها السياسي القائم على الحرية والفردية والمساواة والمحاسبة الشعبية، وفي شقها الاقتصادي القائم على مبادئ الرأسمالية. وعلى أرض الواقع عمت هذه الرؤية العالم بأسره بما فيه من كانت نظمه توصف سياسيا واقتصاديا بالشيوعية، وساعد على ذلك البريق الذي صاحب ظهور تيار العولمة وما حققه من نجاحات، واستفاد منه الجميع بغض النظر عن طبيعة نظامه السياسي. ولكن فوكوياما وغيره من مفكري الغرب لم يراجع نفسه وهو يتابع كم كانت المسافة بعيدة بين هذه القيم والمبادئ وبين الواقع المعاش، وتوالت الأزمات السياسية والاقتصادية دون أن يحرك أحدهم ساكنا. وفي هذا الإطار لا يكون مفاجئا أن يظل هؤلاء على قناعاتهم بصحة البنيان الديمقراطي الغربي، حيث يصعب أن يتراجع أي منهم عن هذه القناعات بعد كل الرواج الذي شهدته على مدى عقود مضت. إلا أنه في ضوء ضخامة الكارثة التي سببتها جائحة الكورونا اضطر فوكوياما في مقاله إلى طرح مسألة مختلفة لم يكن هو ولا غيره يتحدث عنها والأرجح أنهم كانوا يثقون ثقة عمياء في عدم حدوثها. فهو في نطاق تفسيره لسوء أداء الإدارة الأمريكية قال إن ما يصلح للأنظمة السياسية على إطلاقها في أوقات السلم لا يصلح لها في أوقات الحرب والأزمات والأوبئة. ومع أنها قاعدة سليمة بكل تأكيد، إلا أنه هو وغيره من رفاقه كانوا يعتبرونها تنطبق فقط على غير أنظمتهم ولا شأن لأنظمتهم بها، لأن أنظمتهم محصنة دائما ضد المخاطر وما قامت عليه من قيم وما لديها من إمكانيات في أوقات السلم يجعلها تتصرف بكفاءة في أوقات السلم والحرب، أليس ذلك هو ما أكده المفكر الأمريكي في كتابه الشهير نهاية التاريخ، حيث العالم الغربي هو المنتصر دائما والمحصن من المخاطر القومية؟!. ومن الصحيح أن إدارة ترامب تقاعست في ردة الفعل وتأخرت في إعلان المواجهة، ومن الصحيح أنها إدارة افتقدت للكفاءات بما يؤكد رؤية فوكوياما، ولكن من الصعب إرجاع الفشل من جانب بقية النظم الغربية الكبري إلى عدم كفاءة حكوماتها، فقد تصح الملاحظة على الحالة الأمريكية ولكن لا تصح على الحالات الغربية الأخرى، والتعميم الذي أطلقه فوكوياما من هذه الزاوية تحديدا ليس دقيقا، وإن كان لا ينفي واقعة الفشل من الجميع.

لقد أصر مفكرو الغرب على أن الكفاءة والأداء الرفيع هما من خصائص هذه النظم الغربية وحدها، وعلى الآخرين تطبيق هذه الخصائص على أنفسهم إن أرادوا النجاح في مواجهة المخاطر القومية، ولكن في ضوء ما جرى فإن انعدام الكفاءة من جانب هذه النظم ما كان يحدث لولا وجود خلل كبير في هذه الخصائص يتعلق بوجود مسافة كبيرة بين ما يتم ترويجه من قيم وما يتعلق بالأداء أو الفعل، مما جعل هذه النظم مكشوفة بلا غطاء عند مواجهة تحد حقيقي على أرض الواقع من شاكلة تعرضها للوباء. وتبقى الملاحظة الأهم للجميع، وهم ينظرون إلى المستقبل، هي أن الكفاءة ليست حكرا على نظام سياسي بعينه.