أفكار وآراء

منصور خالد .. اختبار الليبرالية

06 مايو 2020
06 مايو 2020

محمد جميل أحمد -

هذا المقال تكميلي لما نشر الأسبوع الماضي عن المفكر السياسي الليبرالي منصور خالد الذي ارتحل مؤخرا، الذي يعتبر من أكثر الذين دارت حولهم دوائر التلقي وصناعة الصحافة والإعلام المأزوم في الساحة السودانية، علامات تشويش وغموض خبيث على مدى سنوات طويلة، أراد منها صانعو الإعلام المؤدلجون، يمينًا ويسارًا، التشويش على مفكر ليبرالي كبير تعين عليه أن يخوض اختبارًا صعبًا لمعنى سودانيتيه، لا كما تسوقها الشعارات السياسوية لليمين واليسار، وإنما كمفهوم يختبر السودانوية عبر معرفة عميقة بتيارات الفكر السياسي الحديث، وإدراك عميق لمعنى اختبار تلك المعرفة في أطوار حياة سودانية كانت تتلمس وجودها الجنيني في محيط عربي مؤدلج ومناخ عالمي شكل عصر الاستقطاب بين اليمين واليسار في الحرب الباردة هويته الأولى، ومجاله العام.

كانت السودانوية بالنسبة لمنصور خالد، اختبارًا لضميره المعرفي والأخلاقي كمثقف وسياسي ليبرالي تعين عليه أن يبحر عكس التيار، وأن يدفع ثمنًا غاليًا لموقفه ذاك. لقد كانت غيوم الأيديولوجيا، يمينًا ويسارًا، كثيفةً في الخمسينيات والستينيات إلى درجة يصعب الفكاك منها، وكانت الأسباب الداعية إلى ذلك في الوسط الذي نشأ فيه منصور بحسبانه متخرجًا مستنيرًا في جامعة عريقة (جامعة الخرطوم) أكثر من جاذبة للانخراط في مناخ الأيديولوجيا، لاسيما أيديولوجيا اليسار الماركسي، لكنه آثر أن يغوص في المعرفة الأكاديمية والعامة من ناحية، وأن يهتدي بضميره الذي تربى في عائلة اشتهرت بالدين والعلم (كان جده محمد عبد الماجد مستشارًا وكاتبًا للسيد محمد عثمان الميرغني الأب الروحي للطريقة الختمية الصوفية في السودان) ليخرج بعد ذلك بمواقف سياسية عكست تجارب حياته العامة، بوصفها مسارًا مستمرًا في البحث عن بوصلة تتوخى النزاهة الأخلاقية في الكتابة والمواقف السياسية.

ولعل أبرز التعبيرات التي تشكلت عبرها الرؤية الليبرالية لمنصور خالد تمثلت في اطمئنانه الرصين إلى هويته المتصالحة مع الدين والعصر دون أي تناقضات مؤذية طالما صورتها أيديولوجيا الإسلام السياسي للعصر من ناحية، أو أيديولوجيا اليسار الماركسي عن الدين من ناحية ثانية.

فثقافته الدينية العلمية منعت تفكيره العام من حدود قصوى لتعبيرات أيديولوجيا الإسلام السياسي، فيما عصمته معرفته العميقة وفكره الرصين من الاستجابة لإغراء الانخراط في تيار اليسار الماركسي الذي كان يوم ذاك إغراء لا يقاوم! وهكذا أصبحت الليبرالية هي الحصن الذي وفر له انفتاحًا على العالم والحياة والفكر والدين، ليختبر معارف شتى في قضايا الوطن ومواقف مشرفة في الانحياز لأفكار وتصورات سودانوية أصيلة عبر عنها أعمق تعبير في كتبه التي كانت منصات وعي ومحطات معرفة كبيرة في الفكر السوداني المعاصر.

ولعل أبرز تعبيرات تلك السودانوية؛ هي انحيازه غير المشروط لخطاب الحركة الشعبية بقيادة الزعيم السوداني الراحل د. جون قرنق (كان منصور خالد مستشارًا سياسيًا له) لمعرفته أن خطاب تلك الحركة في الدعوة إلى (السودان الجديد) كان في عمومه خطابًا يراهن على فكرة المواطنة الصحيحة لجميع السودانيين بعيدًا عن أي تمييز على حساب ألوانهم أو أعراقهم أو أديانهم أو لغاتهم.

لكن التشويش والتشويه الذي اتفق عليه المؤدلجون في صحافة وإعلام الإسلام السياسي كان للأسف أكثر ثقلًا ووطأة على ذهنية عامة الناس، كما أن المناخ الأحادي الذي فرضه نظام الإنقاذ على الصحافة والإعلام لثلاثين سنة لعب دورًا كبيرًا في ذلك الغموض والتشويه حول صورة منصور خالد.

ولعلها مفارقة، أن يصدر منصور خالد 4 مجلدات في تشريح إشكالات مأزق الهوية الوطنية للسودانيين، في العام 2018 ، بدت كما لو أنها إرهاص للثورة السودانية التي انطلقت بعد صدور ذلك الكتاب بستة أشهر.

كتب منصور في سبب كتابته تلك المجلدات الأربعة (عزمت أن أسجل هذه المذكرات لسببين ؛ الأول هو حث أبناء جيلي ومن تلاهم من أجيال على نقد تجاربهم نقدًا عميقًا لا اعتذاريًا،؛ فما مآسي الحاضر إلا نتيجةً لتراكم أخطاء الماضي، هذه الأخطاء المتراكمة ولدت دمامل في جسد الأمة، إن تركت على حالها أدت إلى تسمم الجسد كله؛ ولهذا يصبح أول العلاج هو الاعتراف بالداء. أما السبب الثاني فهو اهتمامي بجيل بازغ من البنين والبنات، وبزوغ الصبي هو صيرورته جريئًا على الكلام. افتطنتُ إلى جرأة هؤلاء على الكلام عند لقائي بهم في الأسفار لقاءً يبعث على الإعجاب. مصدر الإعجاب هو، أولًا رغبتهم الجادة في التعرف إلى الأسباب التي قادت خلال نصف قرن بعد الاستقلال إلى تدهور البناء الوطني، وأي تدهور أكثر من تمزق الوطن، وثانيًا رفضهم للأحكام المسبقة على الشخوص والجماعات في مجتمع أضحى فيه بعض الناس اقرب إلى الوحوش التي تقتات بلحم البشر قبل لحم الخراف. وثالثًا اندهاشهم من تمنع قادتهم أنفةً عن الاعتراف بأخطائهم علمًا بأن كل أخطاء البشر ناجمةٌ عن العجز عن مواجهة النفس بالحقائق، فالنقد الذاتي حوار مع النفس، والذي لا يحاور نفسه وهو ينظر للحقيقة في وجهها حري به أن يصمت).

هكذا ربما علينا اليوم أن نعيد قراءة منصور خالد عبر كتبه الناطقة بلسان مبين بعد أن غادر دنيانا الفانية.