عبدالرزاق
عبدالرزاق
أعمدة

هوامش...ومتون: "مَحْبَس" الحَجْر و"المُحْيبس" المفقود!

06 مايو 2020
06 مايو 2020

عبدالرزّاق الربيعي

مثل منقّب آثار، وجدت نفسي أحفر في ذاكرتي الرمضانيّة لأردّ على سؤال وجّهه لي أحد الزملاء الإعلاميين العرب هو: ما الذي بقي راسخا في ذاكرتك من شهر رمضان المبارك؟

في البداية هممتُ بالاعتذار عن الإجابة، فكلّنا نعيش في بيئة واحدة، ونشترك في تفاصيل كثيرة، وإن اختلفت قليلا، فما هو الجديد الذي سأضيفه للقرّاء، ما داموا يعرفون سلفا الذي يتلجلج في رأسي، وبذلك سيشكّل جوابي خيبة أمل لهم، حاولت الاعتذار، فخشيت أن أخيّب ظن زميل مهنة، لذا جلستُ مفكّرا، وشيئًا، فشيئًا بدأتْ تطفو على سطح الذاكرة تفاصيلٌ رمضانيّة ظلّت عالقة في ذاكرة الطفولة، وصرتُ كمن ألقى حجرا في بركة ماء، فبعد لحظات بدأت دوائر صغيرة، بالتشكّل ما لبثت أن اتّسعت، فتمخّضت عن دوائر أكبر، فأكبر، بل صرتُ أشمّ روائح تلك التفاصيل، العالقة في الذاكرة للمطبخ الرمضاني، وفجأة رأيت أنظارنا ترتفع إلى السماء باحثة عن خيط ضوئيّ اسمه هلال رمضان، وفرحتنا الكبيرة بظهوره دون أن نفهم سببا للفرحة سوى أنّ وجه الحياة سيتغيّر خلال شهر كامل، والمحلّات ستعرض للبيع أطباق" الزلابية"، و"البقلاوة" كطقس من طقوس الشهر الفضيل، وكثيرا ما توزّع على الجالسين في المقاهي بعد انتهاء لعبة" المحيبس"، تصغير "محبس" أو الخاتم، اللعبة الشعبيّة التي تشتهر بها مقاهي بغداد في رمضان، وتتخلّلها الأغاني البغداديّة" المربّعات"، لرفع وتيرة الحماس، والفائز هو الذي يحزر اليد التي تقبض على الخاتم، من بين عشرات الأيدي، وترتفع للأسماع مفردة "بات"، ويلعب العامل النفسي، والفراسة في الكشف عنه، وتكون، "الصواني" على حساب الفريق الخاسر، فتدور على الجميع بعد انتهائها أقراص الزلابية، وقطع البقلاوة.

وشيئًا، فشيئًا بدأتْ دوائر الذاكرة تتّسع، فاستحضرتُ ترقّب الناس أذان المغرب، ومدفع الإفطار، الذي كان يصلنا عبر المذياع، والتلفاز، وعرفنا لاحقا حكاية المدفع التي بدأت من القاهرة قبل 500 عام، وربما إلى عهد الخديوي إسماعيل، عندما تزامن موعد الإفطار مع سماع دويّ إطلاقة مدفع كان تحت الاختبار، فظنّ الناس أنّه إشارة لإعلام الصائمين بحلول موعد الإفطار، فاستحسنوا الفكرة، وصارت تقليدا معمولا به في الكثير من الدول العربيّة.

وتتّسع دوائر الذاكرة أكثر، فأسمع صوت طبل المسحراتي، الذي يوقظنا من النوم، فتعود الحيويّة، والنشاط إلى أفراد البيت مجدّدا، فكان ذلك الصوت بمثابة لمسة سحريّة تزيح الظلام، وتغمرنا بسعادة، فيما الكلّ يستعد لاستقبال يوم رمضاني جديد، لذا كنّا نحبّه رغم أنّه لا يختلف عن أيّ طبل آخر، سوى بكلمة" سحور"، التي تدور على لسان"المسحراتي"، ولتعلّقنا بهذا الزائر الرمضاني الليلي، كنّا نفرح بمقدمه كثيرا صباح العيد، وهو يطلق معزوفته في وضح النهار مستغنيا عن مفردة "سحور"، والهدف من ظهوره الصباحي هو جمع تبرّعات المعيّدين تقديرا لأتعابه، وكان مشهدا جميلا يشبه دهشة لقائك الأوّل بنجم سينمائي يحتلّ حيّزا في الذهن بما تضفيه المخيّلة، وتجود به على صورته.

وحين نتذّكر شهر رمضان لابدّ أن نتذكّر المسلسلات التلفزيونيّة، والفوازير، والبرامج المنوّعة، التي تنشط خلاله، حتّى صار هذا الشهر موعدا سنويّا للكثير من الجمهور مع الشاشة الصغيرة.

وتحتشد برأسي ذكريات كثيرة مضاءة بمصابيح تظلّ توزع نورها على الطرقات بسخاء حتّى أذان الفجر، وحركة الأسواق العاديّة، وكأننا في وقت النهار!، وهذا الوضع وجدت مشابها له في صنعاء خلال إقامتي اليمنيّة، إذ ينقلب الليل إلى نهار، ومن الطريف إنني كنت ذات يوم برفقة د.حاتم الصكر، فمررنا على محل لكيّ الملابس، أعطاه قميصا، ثمّ سأله: متى يكون جاهزا؟ أجاب: قبل صلاة الفجر!! لكنّ الحياة تستأنف أنشطتها بعد العصر قبيل الإفطار، فتكثر الدعوات، التي تتضمّن الأطعمة الشعبية التي يتبادلها الجيران، بكرم كبير، وهذا ما اعتدنا عليه في مسقط، كجزء من طقوس الشهر، التي نفتقد بعضها رمضان الحالي الذي جاء دون مسامرات الأصدقاء في المقاهي، والخيم الرمضانيّة بسبب ما فرضه فيروس "كرورنا" من تباعد اجتماعي، ليحلّ رمضان علينا بنكهة مختلفة، لكنّ الأجواء الروحانيّة تظلّ قاسما مشتركا في رمضان بكلّ الأحوال، مثلما يظلّ طعم "الزلابية"، و"البقلاوة" وإن تناولناهما بشكل انفرادي، فيما يستمرّ البحث، ونحن في محابسنا الصحّيّة الوقائيّة عن "المحيبس" المفقود !!