أفكار وآراء

العالم والتعددية القطبية

05 مايو 2020
05 مايو 2020

عوض بن سعيد باقوير  -

صحفي ومحلل سياسي -

إن الحدث الصحي سوف يعيد تشكيل العالم في ظل فشل النظرية الرأسمالية المتوحشة والتي أظهرت الأنانية والعزلة في مجال التعاون الصحي والاتهامات المتبادلة وحتى السطو على المساعدات بحرا وجوا، وعلى ضوء ذلك فإن القطبية الأحادية خلال العقود الماضية أثبتت فشلا كبيرا يتعين معه تغيير الاتجاه من خلال عدد من الآليات والتي سوف تظهر بعد الانتهاء من فيروس كورونا هذا العام.

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة الأمريكية تسيطر على النظام الدولي في ظل تلاشي الإمبراطوريات التقليدية خاصة الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية والتي سيطرت على الشرق لسنوات طويلة، كما أن الاتحاد السوفييتي السابق ورغم قوته العسكرية إلا أن الحرب الباردة كشفت عدم استطاعته التفرد بقيادة العالم مناصفة مع الولايات المتحدة الأمريكية والسبب يعود إلى العامل الاقتصادي والتكنولوجي الذي جعل انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي أمرا لا مفر منه وبالتالي تفكك الاتحاد السوفييتي إلى جمهوريات في آسيا الوسطى والبلطيق، ومن هنا انفردت أمريكا بالقيادة المنفردة للعالم.

وبصرف النظر عن سلبية تلك القيادة الأمريكية في عدد من المحطات إلا أن الأمور أصبحت واقعا سياسيا، وكما يقال تظهر القيادة في أوقات الأزمات وأيضا من خلال الأزمات الاقتصادية وأيضا من خلال نشر قيم السلام والعدالة الاجتماعية وحل قضايا الفقر ووقف الحروب الإقليمية التي تستنزف موارد الشعوب.

فهل نجحت القيادة الأمريكية في تحقيق تلك الرؤية على الأقل خلال العقود السبعة الأخيرة؟

فشل القطب الأوحد

كان المأمول أن يتجه العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الاستقرار وأن يسود السلام العالمي وتتفرغ الدول النامية التي استقلت حديثا إلى تنمية شعوبها وأن يتم الابتعاد عن استغلال موارد تلك الدول النامية خلال حقبة الإمبراطوريات الاستعمارية والتي كانت الولايات المتحدة الأمريكية أحد ضحايا تلك الحقبة، ولكن مع الأسف اندلعت عشرات الحروب في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وكانت الولايات المتحدة الأمريكية التي من المفترض تقود العالم نحو مناخ مختلف هي أكثر انخراطا في تلك الحروب خاصة في جنوب شرق آسيا حيث شهت حقبة عقود الخمسينات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي اندلاع حروب دامية وقاسية في فيتنام وكوريا ولاوس وكمبوديا والفلبين مخلفة ملايين الضحايا من المدنيين والقضاء على أحلام الملايين من البسطاء في تلك الدول، كما شهدت أفريقيا حروبا إقليميه لا تزال بعضها متواصلا في السودان ودول جنوب الصحراء وليبيا، كما نالت دول أمريكا الجنوبية نصيبها من الحروب والصراعات الأهلية ومن خلال المشاركة الأمريكية.

من هنا اتجه العالم نحو سيطرة أحادية غير رشيدة وأدى ذلك إلى أضعاف الأمم المتحدة وانتشار الفقر والأمراض خاصة في أفريقيا وآسيا، وكانت القضية الفلسطينية هي إحدى ضحايا القطب الأوحد الأمريكي من خلال انحياز الإدارات المتعاقبة لصالح إسرائيل منذ نكبة الشعب الفلسطيني عام ١٩٤٨ وقيام إسرائيل بالقوة الجبرية ومن خلال وعد بلفور المشؤوم، ومن هنا كانت الإشارات الأولى على فشل الولايات المتحدة الأمريكية كقطب وحيد لقيادة العالم ليشهد عقد التسعينات والألفية الثالثة اندلاع حروب في منطقة الشرق الأوسط خاصة في منطقة الخليج والذي انتهى إلى غزو أمريكي سافر على العراق وإسقاط نظامه عام ٢٠٠٣ وأيضا غزو دولة إسلامية وهي أفغانستان حيث لا تزال العراق تعيش أوضاعا غير مستقرة واقتصادا ضعيفا، كما أن الحرب في أفغانستان لا تزال مستمرة رغم التوقيع على اتفاق الدوحة للسلام بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، كما أن التوتر بين إيران وأمريكا في المنطقة أضاف بعدا سلبيا آخر في إطار الصراع على المصالح والنفوذ.

إن التقييم الموضوعي ومن خلال تتبع الأحداث على مدى سبعة عقود هو فشل النظام الأحادي الذي مثلته الولايات المتحدة الأمريكية وأن العالم في حاجة ماسة إلى عالم متعدد القطبية ولتحقيق ذلك، فإن العالم يبدو وكأنه في حاجة إلى هزة عالمية، وهو الأمر الذي يحدث الآن من خلال تفشي جائحة فيروس كورونا الذي أحدث موجة كبيرة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وانكشاف الأنظمة الصحية للدول المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعد أكثر دول العالم معاناة من حيث الإصابات والوفيات.

العالم يتغير

الكل يتفق خبراء ومراقبون للشأن الدولي بأن العالم سوف يتغير وقد يتجه إلى القطبية الجماعية كما يحدث الآن من خلال التعاون الدولي لإيجاد لقاح ضد الفيروس في ظل الفشل الأمريكي الواضح لقيادة العالم صحيا، بل وتصدر العملاق الآسيوي الصين المشهد ليس من خلال السيطرة على الفيروس في ووهان ولكن من خلال استعراض المساعدات الطبية لدول العالم المختلفة وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا وهذا في حد ذاته يعد تحولا تدريجيا نحو نظام عالمي جديد يعتمد على منظومة التعاون الجماعي للدول المؤثرة خاصة الدول الغربية الفعّالة كألمانيا والصين واليابان والبرازيل وكندا والهند والدول الأخرى الصاعدة اقتصاديا، من خلال منظومة القيم الإنسانية التي يمثلها ميثاق الأمم المتحدة.

لقد كانت هزة فيروس كورونا فارقه في التاريخ الحديث حيث أصاب ذلك الحدث العالم بالشلل الاقتصادي والاجتماعي والضعف الإنساني وانكشاف الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، ومن هنا فإن القطبية الأحادية في طريقها إلى التلاشي كما حدث مع القطبين البريطاني والفرنسي والتي انهارت لأسباب اقتصادية والإمبراطورية الأمريكية تعاني اقتصاديا من ركود اقتصادي قد يتساوى مع الكساد الكبير قبل ١٠٠ عام على ضوء تحليلات أمريكية.

إن الحدث الصحي سوف يعيد تشكيل العالم في ظل فشل النظرية الرأسمالية المتوحشة والتي أظهرت الأنانية والعزلة في مجال التعاون الصحي والاتهامات المتبادلة وحتى السطو على المساعدات بحرا وجوا، وعلى ضوء ذلك فإن القطبية الأحادية خلال العقود الماضية أثبتت فشلا كبيرا يتعين معه تغيير الاتجاه من خلال عدد من الآليات والتي سوف تظهر بعد الانتهاء من فيروس كورونا هذا العام أو حتى من خلال التعايش معه وهو الأمر المرجح.

الأمم المتحدة

الأمم المتحدة لابد أن يكون لها الدور الأهم في تشكيل العالم في المرحلة القادمة من خلال إصلاح هيكلي للمنظمة الدولية، خاصة على صعيد مجلس الأمن ووجود القطبية المتعددة يفترض توسيع الدول في مجلس الأمن وأيضا إيجاد آليات عادلة لموضوع التصويت واستخدام الفيتو والتركيز على التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، ومن خلال التركيز على محاربة الفقر والأمراض وأيضا وقف الحروب والصراعات الإقليمية وإيجاد عالم يتسم بالتعاون والمساواة والبعد عن الأنانية السياسية وتكريس قيم السلام والعدالة الاجتماعية، هذا هو المنطق السليم من أجل تعايش سلمي بين البشر لأن استمرار النهج الحالي الذي تمثله الرأسمالية الأمريكية والغربية لم ينجح في خلق عالم يسوده السلام والاستقرار وعلى ضوء ذلك يبدو العالم بحاجة ماسة إلى نظام دولي جديد متعدد القوى حتى يمكن أن تسود العدالة وحل المشكلات الراهنة وأن تعيش الإنسانية بسلام.