أفكار وآراء

توقعات صندوق النقد الدولي لتداعيات كورونا الاقتصادية

04 مايو 2020
04 مايو 2020

صلاح أبونار -

في الرابع عشر من أبريل أصدر صندوق النقد الدولي تقريره ربع السنوى (آفاق الاقتصاد العالمي) تحت هذا العنوان اللافت (الإغلاق العام الكبير).

وتبدو دلالة العنوان واضحة، فهي استعارة مباشرة لاسم (الكساد العام الكبير)، الذي ضرب الاقتصاد العالمي في ثلاثينات القرن الماضي، فيما يعتبره الاقتصاديون أخطر أزمات القرن الاقتصادية.

استهدف خبراء الصندوق رصد تأثير جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، عبر بناء وتحليل سلسلة من توقعات النمو الاقتصادي على مدى العامين الجاري والقادم، فما هي أبعاد تلك التقديرات؟ وما هي مرتكزات بنائها؟ وما التحفظات التي أوردها التقرير عليها؟

يعتبر التقرير الأزمة الاقتصادية الراهنة أخطر أزمات الاقتصاد العالمي منذ الكساد الكبير، ويرون أن آثارها تفوق كثيرًا آثار أزمة 2009، وفي معرض تدليلهم على خطورة الأزمة طرحوا عدة عناصر، فهي أول أزمة تصيب كل بلدان العالم، من الاقتصادات المتقدمة، مرورا بما يدعونه بالأسواق الصاعدة، وانتهاء بالاقتصادات النامية، وهي أزمة حلت بجانبي العرض والطلب في توقيت واحد، عبر علاقة جعلت من الصعب تحريك أي منهما منفردا، دونما المغامرة بتفاقمها. وهي أزمة يشكل نمط مواجهتها الأساسي حتى الآن، عبر التدخل الحكومي الاقتصادي والمالي الكثيف، طريقًا لتجاوزها وأيضا لتفاقمها في مرحلتها التالية على انحسار الجائحة، وهي ليست مجرد أزمة مادية نرصدها في معدلات الإنتاج والتجارة، فهناك أبعاد نفسية وسلوكية سوف تساهم في تشكل تداعياتها، مثل الشعور بالثقة الاقتصادية على جانبي العرض والطلب، والتغيرات المتوقعة في أنماط السلوك والعمل، وثورة المطالب المتوقعة المترتبة على انكشاف واقع كثير من النظم الاقتصادية. طرح التقرير توقعاته انطلاقا من (سيناريو أساسي) للأزمة رجح كفته من ثلاثة سيناريوهات. وانطلق في بناء السيناريو الأساسي وتقدير التوقعات المترتبة عليه من معطيات وافتراضات أساسية، قام بتنظيمها عبر مجموعات مترابطة. تتعلق المجموعة الأولى بما دعاه (طبيعة الصدمة)، وترتبط بخصائص الأزمة فيما يتعلق بجانبي العرض والطلب.

قادت عمليات العزل الإقليمي والإغلاق الاقتصادي والتباعد الاجتماعي، إلى تقييد حركة وإنتاجية العمل، مما أثر على الإنتاج وخاصة قطاعات التفاعلات الاجتماعية المباشرة مثل السياحة والترفية، وولّد اضطرابات حادة في سلاسل القيمة العالمية. وعلى الجانب الآخر قادت إجراءات العزل والتباعد والإغلاق ومعها فقدان الوظائف على نطاق واسع، مقرونة بالتأثير النفسي للجائحة من خوف وغياب للثقة، إلى انخفاض حاد في الطلب تمدد تأثيره عبر سلاسل القيمة العالمية. وتتعلق المجموعة الثانية بما دعاه التقرير (قنوات التضخيم)، ويعنى بها المؤسسات والآليات الاقتصادية التي تفاعلت مع الحدث الأولي، لكي تضاعف من تأثيره. قامت أسواق المال بإعادة تسعير أوراقها، مع تصاعد غياب الثقة واتساع الاضطرابات الفجائية التي طالت فروع الاقتصاد. وقاد الهروب السريع إلى أصول اقتصادية آمنة والتسابق على السيولة، إلى تصعيد الضغوط على تكاليف الإقراض ليصبح الائتمان المالي محدودا، الأمر الذي ضاعف من الضغوط المالية.

وقاد ارتفاع نسبة البطالة والشلل الاقتصادي إلى زيادة مخاطر الخيارات الاقتصادية النمطية واسعة الانتشار، وهكذا أصبح المقرضون يشعرون بالقلق تجاه قدرة المقترضين على السداد وساهم هذا في تقييد عمليات الإقراض. وقام الوسطاء الماليون بتسييل أصولهم، لتعويض عمليات السحب التمويلي من جانب المستثمرين، الأمر الذي أشعل الحرائق في مبيعات الأسهم.

وتحت تأثير الاضطراب العام تباطأت حركة قنوات التمويل الدولي الخارجي للبلدان كثيفة الاعتماد عليها، وأخذت السندات السيادية الجديدة في التوسع، وانعكس اتجاه حركة الأسهم إلى الاقتصاديات الصاعدة.

وتخص المجموعة الثالثة أسعار بعض مواد الإنتاج والعملة والفائدة. تحت تأثير الجائحة انخفض سعر الأساس للمعادن 15% والغاز 38% والنفط 65%، وتشير التوقعات إلى أن سعر النفط لن يتجاوز في نهوضه 45 دولارا عام 2023، ولن يتمكن من استعادة أسعار 2019.

وقامت البنوك المركزية بتخفيض سعر الفائدة، وأطلقت برامج مالية كثيفة لدعم السيولة وشراء الأصول ومساندة الفئات والمشروعات المتضررة والإنفاق الصحي، وأخذت أسعار العملات الدولية في الانخفاض في تعاملات الاقتصاديات الصاعدة والمتقدمة، فانخفض الدولار 8,5% بمعايير التبادل الفعلي، والين 5% واليورو 3%.

وتتعلق المجموعة الرابعة بتصورات مسار الجائحة ونمط التعامل معها. تتبنى هذه التصورات فرضية وصول الجائحة ذروتها ثم بدء انحسارها خلال النصف الأول من العام، تبعًا لنجاح سياسات العزل والتباعد والإغلاق. ومع تواصل انحسار ظواهرها سيشهد النصف الثاني التفكيك المتصاعد لإجراءات العزل الجغرافي والتباعد الاجتماعي والإغلاق الاقتصادي والتشدد المالي، وعودة الثقة بين قوى العرض والطلب، بالتوازي مع إطلاق برامج الإنعاش والإعانة والموازنة والوصول إلى علاج ولقاح للمرض يمكن الدول من مواجهة بقاياه وبؤر انبثاقه الجديدة عبر أساليب تتخطى أساليب العزل والإغلاق.

وخلال العام التالي ستكون الحياة الاقتصادية قد عادت إلى طبيعتها وانطلقت برامح التعافي الاقتصادي بكامل قوتها، وعممت أساليب العلاج واللقاح.

يتوقع التقرير انخفاضا حادا في معدل نمو الناتج القومي لعام 2020، يتلوه ارتفاع كبير في معدل 2021. في معظم البلدان، كان معدل نمو 2019 منخفضا بالمقارنة بعام 2018، وكان من المتوقع للعام الجاري تخطي معدل 2019، ولكن الجائحة جاءت معها بانخفاض درامي. وفقًا للتقرير كان معدل نمو الناتج القومي العالمي 3.6% عام 2018 انخفض إلى 2.9% عام 2019، وبفعل الجائحة سينخفض إلى 3.0%سالب في 2020، بنسبة 6.3% أدنى من تقديرات البنك السابقة في يناير 2020، لكنه سيرتفع إلى 5.8% عام 2021 متخطيا تقديرات يناير بنسبة 2.4%. وبالنسبة لما يدعوه الصندوق (الاقتصادات المتقدمة) أي أمريكا ومنطقة اليورو وكندا واليابان، وصلت معدلات 2018 إلى 2.2%، وانخفضت إلى 1.7% عام 2019، وفي العام الجاري ستنحدر إلى 6.1% سالب بفارق 7.7% أدنى من تقديرات يناير، لكنها سترتفع إلى 4.5% عام 2021 بفارق 2.9% أعلى من تقديرات يناير. وبالنسبة لما يدعوه الصندوق (الاسواق الصاعدة والاقتصادات النامية)، في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا جنوب الصحراء، كانت معدلات النمو 4.5% عام 2018، انخفضت إلى 3.7% عام 2019، وسينحدر تقديرها في عامنا الجاري إلى 1.0% سالب بفارق5.4% عن تقديرات يناير، وسترتفع إلى 6.6% عام 2021 بنسبه 2% أعلى من تقديرات يناير. ومن المفيد إلقاء نظرة على توقعات نمو بعض الدول المركزية؛ سينخفض معدل النمو الأمريكي من1.7% عام 2019 إلى 6.1% سالب فى 2020 بفارق 7.9% سالب عن تقديرات يناير، ليرتفع إلى 4.7% فى 2021 أى أعلى 3% من تقديرات يناير. وسينخفض معدل نمو منطقة اليورو من 1.2% عام 2019 إلى 7.5% سالب في 2020 وهو أدنى 8.8% عن تقديرات يناير، ليرتفع إلى 4.7% عام 2021 وهو أعلى 3,3%من تقديرات يناير. وتبدو الصين أسعد حظاً، حيث سينخفض معدلها من 6.1% عام 2019 إلى 1.2% موجب في عامنا الجاري، وهو أدنى 4.8%عن تقديرات يناير، ليرتفع إلى 9.2% عام 2021 بنسبة 2.6% أعلى من تقديرات يناير.

وينبهنا التقرير إلى أمرين:

أولهما: إنه لا ينبغي النظر إلى تقديرات 2021 نظرة وردية، ذلك أن نسب النمو العالية لهذا العام ينبغي رؤيتها، على أساس انطلاقها من التدهورالشديد في الناتج العالمي الذي شهده عام 2020، وحالة التوقف والاغلاق التي سيطرت على الاقتصاد في النصف الأول منه، والتي لن تتراجع مرة واحدة في النصف الثاني. ويضيف: إن مقدار خسائر الاقتصاد العالمى على امتداد العامين ستصل 9 تريليونات دولار، وأن حجم الناتج 2021 العالمي سيظل رغم معدل النمو المرتفع أقل من مثيله عام 2019. وثانيهما: ضرورة إضفاء صفة (عدم اليقين) على توقعات التقرير، ووفقًا لهذا التحفظ يمكن أن تنتهي التطورات، إلى نتائج أفضل أو إلى تداعيات أسوأ مما تشير إليه التقديرات. ويفسر التقرير حالة عدم اليقين بعدة أسباب؛ منها أنه في سياق الأزمة يصعب تمامًا الرصد الدقيق لحجم خسائرها الظاهرة، واكتشاف نتائجها الضمنية التي لم تظهر بوادرها، وبالتبعية العجز عن تحديد السياسة المثلى لمواجهتها وحجم النهوض المتوقع منها ومدى قدرة المؤسسات على تحمل التكلفة؛ ومنها أننا بصدد ظاهرة طبيعية نسعى لحصارها، ولكن معرفتنا بها ما زالت نسبية وبالتالي يمكن أن تخفق توقعاتنا فلا تنحسر وفقًا للسيناريو الزمني، ويمكن أن تصدق وتنحسر لكنها قد تعاود الانبثاق بعد فترة على نطاق واسع أو ضيق. ومنها صعوبة التنبؤ بالعوامل الفاعلة في السياق الذي ستجري فيه سياسات التعافي التالية على انحسار الجائحة، مثل مدى الأضرار التي حاقت بالعرض، ومضاعفات تراجع أسواق المال، وتحولات أنماط الإنفاق والتغيرات في السلوك الاستهلاكي، ومدى ثبات أسعار السلع، ومنها صعوبة تقدير مدى كفاءة سياسات المواجهة والتعافي، سيكون على تلك السياسات إطلاق برامج للتعافي الاجتماعي، وإصلاح النظم الصحية الوطنية، وانتشال المشروعات من وهدة الإفلاس والركود، وتبني سياسات تحفيز اقتصادي عامة، وإعادة الاستقرار للأسواق المالية، وتدخلات لضبط أسعار المواد الأولية، وسيكون عليها أن تفعل ذلك فى ظل موارد متراجعة، وماليات عامة منهكة، وتراجع التجارة العالمية، وانكماش موارد التمويل الدولي، واضطراب في علاقة العرض بالطلب، أي في ظل ظروف صعبة ومتشابكة وصراعية.