أفكار وآراء

إنقاذ العولمة لتأمين المستقبل

03 مايو 2020
03 مايو 2020

هنري بولسون - الفاينانشال تايمز - ترجمة قاسم مكي -

لم يتحول كوفيد -19 إلى جائحة مهلكة فقط، ولكنه أيضا أدخل اقتصاد العالم في أقسى أزمة يشهدها منذ الركود العظيم (1929).

وستواجه الحكومات مع تباطؤ انتشار الفيروس وعكوفها على إعادة البناء قوة كاسحة أخرى في طريقها هي نزعة العزلة. هذه المعركة الوشيكة ستضع قوى الانفتاح المتجذرة في مبادئ السوق في مواجهة مع قوى الانغلاق عبر أربعة أبعاد هي التجارة وتدفقات رأس المال والابتكار والمؤسسات الدولية.

إن السماح بانسدال ستارة حديدية اقتصادية سيعرض التعافي للخطر ويهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. لذلك على كل بلد مقاومة جهود تفكيك الروابط العابرة للحدود. وستكون المؤسسات الدولية بحاجة إلى تعزيز جهودها وتغيير ما «بأنفسها».

لقد ازدهر العالم بسبب التكامل. لكن حتى قبل الجائحة كان الميزان يميل نحو الاقتصادات المغلقة.

والآن يشجع هذه الأصوات (الداعية إلى العزلة) الانكماش الاقتصادي والبطالةُ المتصاعدة وفشلُ الصين في التعامل مع تفشي كورونا بشفافية. علينا إعادة ضبط أمورنا وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بأفضل سمات العولمة. فالسياسات الصائبة لا تتموضع في الانفتاح أو الانغلاق ولكن في المساحة الكائنة بينهما.

من المؤكد أن معارك حامية الوطيس سيتم خوضها حول التجارة. وستعمل الشركات متعددة الجنسيات على عدم الاعتماد مرة أخرى على بلد واحد لتعهيد (إنتاج) مكوَّن ضروري من المكونات التي تدخل في منتجاتها. كما سيكون لزاما على كل بلد العمل على إنتاج بعض المستلزمات الطبية البالغة الأهمية محليا.

قد يقود ذلك، إذا بالغت الشركات في الالتزام به، إلى تفكيك تكامل صناعة كبرى في وقت يشهد قيام الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية على الصلب والسلع الصناعية بناء على حجج واهية «تتعلق بالأمن القومي». على الحكومات حماية سلاسل إمدادها الحيوية وفي الوقت ذاته تعزيز التجارة والاستثمار عبر كل القطاعات.

لا تملك الصناعة المصرفية (البنوك) رأسمالا كافيا لامتصاص خسائر الائتمان الكبيرة والوشيكة وتقديم الإقراض المطلوب لحفز التعافي. علينا ضمان تدفق رأس المال إلى مؤسسات الأعمال الأكثر حاجة له. مثل هذه التدفقات الرأسمالية الخارجية ستكون في «مرمي نيران» دعاة الحمائية. لكن على البلدان رغم ذلك البحث عن الاستثمار الأجنبي المنتج للوظائف والذي يعزز التعافي ببناء الجسور بدلا عن الجدران.

فك الارتباط التكنولوجي أيضا يخاطر بتعميق التحول إلى الانغلاق الاقتصادي. فالابتكار يزدهر في التعاون الإبداعي والعابر للحدود. لكن صعود دعاة القومية التكنولوجية تطورٌ طبيعي لجيل من التقنيات المتعددة الاستخدام بطبعها، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي. ستلعب هذه الابتكارات دورا مركزيا في النجاح الاقتصادي. لذلك على الحكومات الاستثمار وتقديم الحوافز لرواد الأعمال وتطوير معايير لحماية الأمن القومي والاقتصادي.

يوحي تركيز بكين على التوطين وواشنطن على إعادة موضعة سلاسل الإمداد وحجز (منع انتقال) التكنولوجيا بأن المستقبل سيكون، لسوء الحظ، في صالح القوميين التكنولوجيين. لكن إذا أفرطنا (في انغلاقنا) بقطع الروابط ومنع التبادل التكنولوجي والأبحاث المشتركة سيعيق ذلك الابتكار والأبحاث الأساسية التي يمكن أن يكون بمقدورها تغيير العالم بما في ذلك أبحاث لقاح كوفيد-19 وخفض انبعاثات الكربون، وهي قنبلة موقوتة.

للمؤسسات الدولية واجب وفرصة التصدي لهذه التحديات. لكن لم يبدُ منها ما يشير إلى أنها على قدر هذه المهمة. لقد كانت إخفاقاتها الماضية نتيجة لفشل البلدان الأعضاء في بذل الجهد اللازم لجعل أدائها فعَّالا.

يمكن للولايات المتحدة تولي القيادة بالاستثمار مجددا في المؤسسات الدولية التي سعت بشدة لإضعافها. فمنظمة التجارة العالمية لم تساير عالم التجارة الحديثة السائد اليوم. ومؤسسات «بريتون وودز» لا تحصل على التمويل الكافي ويوجد تشدد مفرط في إجراءات عملها.

عندما تجتمع مجموعة العشرين في السعودية في نوفمبر القادم على القادة الالتزام بمبادئ السوق والإجراء التكميلي لدعم النمو الاقتصادي. لكن ذلك لا يكاد يكفي. فالمستقبل الاقتصادي المستدام يتطلب مجموعة فعالة من القواعد الدولية للتجارة والاستثمار ومعايير الملكية الفكرية والتكنولوجيا. ويجب أن تلعب المؤسسات متعددة الأطراف دورا أكبر في مساعدة البلدان الضعيفة على تجنب المعاناة الإنسانية وعدم الاستقرار السياسي.

أيضا على بلدان الاقتصادات الكبرى في مجموعة العشرين مواجهة المخاطر عبر نطاق أوسع من المهددات. يجب أن تتعلم الدرس من حقيقة أنها لم تكن مستعدة للجائحة التي كان من الممكن جدا التنبؤ بها. كما عليها الاستعداد لأخطار أخرى واضحة مثل الإرهاب والحرب الإسفيرية (الإلكترونية) والتغير المناخي والانتشار النووي.

هذا هو وقت الشروع في تطوير إطار للتنسيق الدولي. سيكون العالم مكانا خطرا جدا إذا لم نعمل على إصلاح المؤسسات الدولية وإرساء المعاهدات والبروتوكولات المطلوبة لمنع وقوع الأحداث المأساوية في المستقبل والتلطيف من آثارها.

ستقاوم القوى التي تنادي بالانغلاق والعزلة تقويةَ المنظماتِ المتعددة الأطراف. لكن ذلك لن يؤدي سوى إلى زيادة الأخطار التي يواجهها مواطنونا. وفي حين أن مستقبل الإصلاح في الأجل القريب يبدو مُعتِما إلا أنني أكثر تفاؤلا بأن هذه الأزمة ستحفز في النهاية على التعاون بين البلدان الكبرى للبدء في بذل جهود بناء مستقبل أكثر سلما واستدامة.

واجه العالم تحديات أشد صعوبة من فيروس كورونا. لكن يمكن تأمين التعافي (والمستقبل) فقط إذا تعاونت الاقتصادات الكبرى. يصارع المتنافسون والخصوم الإستراتيجيون لإيجاد أرضية مشتركة حتى عندما يكون ذلك في مصلحتهم الذاتية. لكن لن يكون هنالك تَعَافٍ دائم إذا لم يكن في مقدور الاقتصادات الكبرى خصوصا الولايات المتحدة وروسيا إيجاد إطار استراتيجي عملي.

النظام الاقتصادي العالمي ليس مثاليا. لكنه، حقا، أكبر وأهم من أن يفشل.


  • الكاتب باولسون وزير خزانة أمريكي سابق ورئيس مجلس إدارة معهد بولسون. المقال جزء من سلسلة يكتب فيها كبار المعلقين وصانعي السياسات حول ما يتوقعونه في حقبة ما بعد كورونا