أفكار وآراء

الموروث الفكري ومسألة القطيعة معه!

02 مايو 2020
02 مايو 2020

عبدالله العليان -

منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع بروز ما سمي آنذاك بـ (صدمة الغرب)، أو الصدمة الحضارية التي حدثت بعد ذهاب بعض الطلاب العرب إلى أوروبا للدراسة الجامعية والدراسات العليا، ووجدوا الفارق الكبير بين البلدان الغربية، وبلداننا العربية التي كانت تعيش تخلفًا كبيرًا في شتى المجالات العلمية، والتعليمية، والفكرية، والتنموية، وجاء الاستعمار في تلك الفترة نفسها، وزاد هذه البلدان تخلفًا على تخلفهم القائم، على الرغم من أن هذا الاستعمار ادعى أنه جاء منقذًا مما تعيشه بلداننا العربية وليس غازيًا لهذه الدول التي تمت استباحتها بالقوة والقهر! فانبهر العديد من هؤلاء الشباب بالغرب، بما وصل إليه من تقدم، ومن نهضة صناعية وتعليمية، وتقدم مادي وتكنولوجي، مما أصيب بعضهم بهزيمة نفسية فكرية، بما حققه الغرب من تقدم على كل المستويات، وقد كان لبعض المستشرقين في تلك الجامعات - العربية وفي الجامعات الغربية - أثرهم الكبير، في بث التأثير عليهم تجاه فكرهم وتراثهم، وحتى لغتهم، وأن على العرب والمسلمين - إن أرادوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه الغرب - أن يقتفوا أثره، ويسيروا سيرته، وأولها الانسلاخ من موروثهم الفكري والثقافي، ويتبعوا الغرب في ما أقدم عليه من إقصاء الكنيسة، ودخل إلى عصر الأنوار، والحقيقة أن الغرب، لم يلغ تراثه الفكري والثقافي والفلسفي، ولم يقصه في حركته النهضوية، بل إن هذا التراث، بقي كزيد فكري وفلسفي في حركته، ويأخذ منه ما يناسب، ويترك ما يراه يستحق الإهمال والترك.

لكن ما قام به الغرب في عصر الإصلاح الديني وما بعده، أنه أقصى تدخلات الكنيسة في السياسة والحكم والعلم، وهذه قضية خاصة بالغرب، في صراعه مع الكنيسة، وإرجاعها إلى دورها الحقيقي، لأن الديانة المسيحية ديانة روحية، وما يعزز هذا الأمر المقولة الشائعة عن أحد القساوسة بـ(دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، لكن التراث الغربي عمومًا منذ عصر اليونان حتى عصر الأنوار بقي حاضرًا، ولم تتم القطيعة معه، لكن بعضًا من أبناء جلدتنا، اعتبر أن الحل في النهضة والتقدم لدى العرب والمسلمين فهذا لا يحقق تقدمًا ولا نهضة، من خلال أن القطيعة مع تراثنا كله، واتباع ما اختطه الغرب، لكي نتقدم ونتطور، وهذا ما قاله أحد المفكرين العرب - قبل تراجعه - وهو المفكر والفيلسوف المعروف الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي)، أنني كنت أعتقد أن: «لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترًا، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علمًاً وحضارة ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم.. بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة ربما كان دافعي الخبيء إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا وجهلي بالتراث العربي جهلًا كاد أن يكون تامًا، والناس - كما قيل بحق - أعداء ما جهلوا».

وهذه إشكالية يتحدث عنها البعض في مؤلفاته ومقابلاته الصحفية، وهو الدكتور عبدالله الغروي واعتقاده بأن هذا ما يجب اتباعه دون النظر إلى الاختلاف والتمايز بيننا وبين الغرب، في جوانب كثيرة، خاصة الانسلاخ من ذاتينا وفكرنا وقيمنا، وهذا ما لم يفعله الغرب نفسه، عندما انفتح على الحضارة العربية /‏الإسلامية في العصر الوسيط، في الفكر، والثقافة، والفلسفة، خاصة من الفلاسفة الكبار، أمثال ابن رشد، وابن سينا والفارابي، وغيرهم من علماء الحضارة العربية الإسلامية، حيث أخذوا بضاعة الغرب نفسها (فلسفة اليونان ورؤيته الفكرية)، وتركوا أخذ القيم والثقافة، وروح الحضارة العربية الإسلامية، وهذه بلا شك قياس غير دقيق، فكل أمة من الأمم لها رؤيتها وفكرها وثقافتها، الذي يميزها عن غيرها.

فالغرب نفسه لم ينقد تراثه في عصر النهضة، كما يعتقد بعض المنبهرين بالغرب ورؤيته الفكرية، بل إن النقد انحصر في التراث الكنسي، الذي أعاق مسيرة النهضة، بحسب ما قالته النخب الفكرية التي ساهمت في تحجيم ممارسات هذه الكنيسة، لكن التراث الغربي، لم يتم نقده منذ العصر اليوناني بالقياس إلى ما فعله بعض المفكرين العرب، وما زال الغرب يعتبره جزءًا من الهوية الثقافية والفكرية في الإرث المسيحي، وهذه نظرة عقلانية واعية ومدركة للتراث الفكري عمومًا، في كل الثقافات، والإشكالية أن الرؤية التي يطرحها البعض للتراث العربي، نظرة سوداوية، وفهم خاطئ للتراث، أو للموروث الفكري عمومًا، فالقطيعة مع التراث، بحجة الالتحاق بالغرب والالتصاق به في كل حياته وسلوكه، لا يحقق شيئًا لما نعتقده أو نتمناه، ولا يمكن أن يتحقق النهوض، بمجرد التقليد أو المحاكاة للآخر، فالتقدم - بحسب مالك بن نبي «ليس لوحة رسم ننقلها من مكان إلى آخر».

لذلك من المهم إذا أردنا أن نصل إلى ما وصل إليه الغرب، أن ننطلق من البناء الذاتي، من العودة للتراث، نستلهم منه القيم والرؤى الإيجابية، التي كان لها الأثر في قيام حضارة مترامية الأطراف، باعتراف حتى الغربيين أنفسهم، فلا يمكن أن نقصي التراث في مسيرة النهضة التي نريدها، إذ علينا أن نأخذ من هذا التراث، ما يناسبنا من عناصره الحية، وترك ما نراه معيقًا من هذا الموروث.

لذلك من أهم الجوانب التي تستحق النظرة الموضوعية للتراث، هو هضمه واستيعابه، وليس القطيعة معه، أو رميه في سلة المهملات، كما يراها البعض من أبناء جلدتنا، ففي التراث لا شك عناصر صالحة، ويمكن استمدادها، من أجل التجاوز، لما هو أنسب للعصر وخاصة القيم وأسس المنهج العلمي، التي قامت عليها الحضارة العربية الإسلامية.

فلا يمكن أن تنهض أي أمة من الأمم، إلا من خلال أن اقترابها وانتظامها في تراثها الحي، وهذه سنن كل الحضارات والثقافات العالمية، ومنها في عصرنا الحديث الصين، واليابان ودول آسيوية أخرى، كما أن التراث مقوم من مقومات الشخصية العربية، ويمثل ذاكرتها وهويتها، ومنها نستلهم كل الرؤى الدافعة للنهوض، فالنظرة الحضارية لأي أمة من الأمم ليست شيئًا هلاميًا معلقًا في الهواء، دون الاستناد إلى جذور أو قواعد تبنى عليه، لتعزز هذه الذاتية التي تتطلع إلى الانطلاق والتقدم، وهذا ما يمثله التراث أصدق تمثيل.

أيضًا ليس جيدًا الاستغراق والإفراط في التغني بأمجاد الماضي دون الالتفات إلى الحاضر والمستقبل، أو إلى المتغيرات والتحولات في عصرنا ولذلك من المهم التوازن بين الأخذ والعطاء، لكن السبب الذي جعل الأمة تلتف حول تراثها في عصرنا الراهن، - كما يقول الدكتور محمد عابد الجابري (المسألة الثقافية): «هي جزء من عملية الدفاع عن الذات، وهي عملية مشروعة وتشترك فيها جميع شعوب الأرض.. التراث ضرورة من ضرورات، يتعلق أساسًا بمواجهة الذات نفسها». ولذلك أن فكرة الانسلاخ من التراث، والقطيعة معه، لا يمكن أن تثمر تقدمًا للأمة، ولا تحقق نهوضًا، لكن كما أشرنا آنفًا، وهو الأهم، ماذا نأخذ من هذا التراث، وماذا ندع منه؟، وهذه هي المعادلة الواقعية والعقلانية.