180220135136-thomas-friedman-780x439
180220135136-thomas-friedman-780x439
أفكار وآراء

العودة إلى توازن الطبيعة

28 أبريل 2020
28 أبريل 2020

توماس فريدمان

ترجمة: أحمد شافعي

يوما بعد يوم يزداد وضوحا مدى سوء الحظ الذي منينا به إذ تتزامن إحدى أسوأ الأزمات في التاريخ الأمريكي مع رئاسة دونالد ترامب. فلو أننا نحتاج ـ من أجل الخروج من هذه الأزمة بأقل قدر من الخسائر في الأرواح وأقل ضرر في اقتصادنا ـ إلى رئيس قادر على توجيه نقاش قائم على العلم بعيدا عن التحزب في ظل تحتم الوصول إلى توازنات شديدة الصعوبة في أصعدة أخلاقية واقتصادية وبيئية.

نحتاج إلى رئيس يمثل مزيجا من فرانكلين روزفلت [الذي قاد أمريكا خلال أزمة الكساد الكبير] وجاستس براندس [رجل القانون الذي ناصر القضايا العامة حتى لقِّب بـ"محامي الشعب"] وجوناس سولك [الطبيب والباحث الذي توصل إلى أحد أوائل الأمصال المضادة لشلل الأطفال]، في حين أن لدينا رئيسا هو مزيج من دكتور فيل [المذيع التليفزيوني] ودكتور سترينجلاف [وهو شخصية سينمائية من حقبة محاربة الشيوعية] ودكتور سوس [الطبيب والكاتب ورسام الكاريكاتير وصاحب الكتب الرائجة].

مؤكد أن ترامب ليس الشخص الوحيد الذي ينشر بذور الشقاق في مجتمعنا، لكن له صوت عال علوا لا يتوافر لغيره بوصفه رئيسا، فحينما يلقي علينا سياسات الفرقة، ويصف المنظفات دواء، فإنه لا ينال من مناعة مجتمعنا الجسدية لفيروس كورونا وحسب، بل ينال أيضا مما تطلق عليه أستاذة علم المستقبليات مارينا جوربس بـ"مناعتنا الإدراكية" أي قدرتنا على تنقية العلم من الدجل، والحقائق من الفبركات.

ونتيجة لذلك أصبح المؤتمر الصحفي اليومي لترامب في حد ذاته خطرا صحيا عاما.

إذا لم يكن لنا رئيس قادر على التنسيق المتناغم بين حاجتنا إلى حماية أنفسنا من فيروس كورونا من ناحية وحاجتنا إلى الرجوع للعمل من ناحية أخرى ـ وكذلك التنسيق المتناغم بين حاجتنا إلى حماية أنظمة كوكبنا البيئية من ناحية وحاجتنا إلى النمو الاقتصادي من ناحية أخرى ـ فإن مصيرنا مشؤوم.

لقد كان المحرك الحقيقي لهذا الفيروس هو الاستقطاب الذي فصلنا عن العالم الطبيعي. ولسوف يحطمنا ـ ماديا واقتصاديا ـ أن نظل أسرى تلك الحجة الاستقطابية الثنائية بين الحياة وأسباب العيش.

إليكم السبب: حينما تستمعون إلى ترامب ترون أن من أفكاره الدائمة أن كل شيء كان "مثاليا" في اقتصادنا إلى أن ظهرت فجأة ـ ومن العدم ـ تلك البجعة السوداء المعروفة بكوفيد 19 في الصين فخرَّبت كل شيء. صحيح أن هذا الفيروس جاء من ووهان بالصين، لكنه لم يكن قطعا بالبجعة السوداء التي ما كان لأحد أن يتوقعها. بل كان في الحقيقة "فيلا أسود".

و"الفيل الأسود" مصطلح صاغه عالم البيئة آدم سويدان. وهو مزيج من "البجعة السوداء" ـ أي الحدث المستبعد غير المتوقع ذو التداعيات الهائلة ـ و"فيل الغرفة" ـ أي الكارثة المحدقة البادية للجميع ولكن أحدا لا يريد معالجتها.

كان كوفيد 19 فيلا أسود. وكان النتيجة المنطقية للحروب المدمرة المتصاعدة التي خضناها ضد الطبيعة.

ويشرح لنا يوهان روكشتروم كبير علماء المنظمة الأمريكية المعروفة بـ"المحافظة الدولية": "عندما تعمدون في آن واحد إلى مطاردة الحياة البرية ودفع التنمية على حساب الأنظمة البيئية الطبيعية ـ مدمرين المواطن الطبيعية ـ تنهار التوازنات الطبيعية بين السلالات بسبب فقدان الكائنات المفترسة العليا وسلالاتها الأيقونية بما يؤدي إلى غزارة في وجود السلالات الأكثر انتشارا وتكيفا مع الحياة في مواطن البشر، ومن هذه السلالات الجرذان والوطاويط وبعض الرئيسيات ـ التي تستضيف مجتمعة 75% من الفيروسات الحيوانية المعروفة، والقادرة على البقاء والتزايد في مواطن البشر الخربة".

وفي حين أننا معشر البشر قد صرنا أكثر عددا وتركزا في المدن، وفي حين أن تدمير الغابات قرَّب منا هذه السلالات الأكثر انتشارا، وفي حين أن بلادا مثل الصين وفيتنام ودولا أخرى في وسط أفريقيا تسامحت مع الأسواق الرطبة التي تختلط فيها هذه السلالات المحملة بالفيروسات مع اللحوم الداجنة ـ فإننا نشهد المزيد من انتقال الأمراض الحيوانية من الحيوانات إلى البشر. ومن أسماء هذه الأمراض سارس وميرس وإيبولا وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير ـ وكوفيد 19.

الصين بصفة خاصة تتحمل مسؤولية الكثير في هذا المقام. فلقد حظرت الأسواق الرطبة في إحدى مقاطعاتها بعد سارس سنة 2003، ثم عادت وسمحت بإعادة فتحها بعد انتهاء سارس ـ وهذا في ظاهر الأمر هو الذي جلب علينا كوفيد 19 من ووهان (ومن العار ما يتردد عن أن الصين لم تغلق بعد الأسواق الرطبة التي تباع فيها الحيوانات البرية).

وبإضافة العولمة إلى ما سبق تجدون بين أيديكم المكونات المثالية للمزيد من الأوبئة. إننا بحاجة إلى المزيد من التوازن المتناغم بين النمو الاقتصادي وأنظمتنا البيئية.

ولا غنى عن إدراج مثل هذا النهج المتناغم في جدالنا الحالي حول إعادة فتح الاقتصاد. ومن سبل الوصول إلى ذلك سبيل اقترحه جراهام أليسن خبير الأمن الوطني في هارفارد.

كتب أليسن أننا نجري هذا الجدال المتعلق بصحتنا ومستقبلنا الاقتصادي على نحو يتزايد افتقاره إلى التنسيق. وعلينا بدلا من ذلك أن نضع خبراء حكوميين فيدراليين في فريق يقدم هذا النهج ـ وأن يكون لدينا فريق ثان مؤلف من محللين استراتيجيين مستقلين للبيانات الطبية والاقتصادية والصحية العامة يقدمون نهجا بديلا. وننطلق من ذلك إلى المركّبات المثلى.

وضرب أليسن هذا المثال: "لو أننا انتهينا إلى أن مجموعة معينة مؤلفة من ربع السكان تواجه بسبب فيروس كورونا خطر الوفاة غير المقبول ولكن الـ75% الباقية لا تواجه ـ في ظل المحاذير الملائمة من قبيل التباعد الاجتماعي والأقنعة ـ خطرا أكبر من الأخطار التي كانت مقبولة قبل فيروس كورونا، فهل يكون لنا أن نصمم رد فعل يحمي الفئة الضعيفة ويعيد في الوقت نفسه فتح أغلب مجالات الاقتصاد أمام الباقين؟

كنموذج لتفكير الفريق الثاني، أشار أليسن إلى دكتور ديفيد كاتز خبير الصحة العامة الذي ساعد في إثارة الجدل حول كيفية التنسيق المتناغم بين حماية الفئة الضعيفة وفتح الاقتصاد للمعرضين للأقل عرضة للخطر في مقالة نشرتها له نيويورك تايمز في العشرين من مارس، وفي حوار تال لها أجريته معه.

بعد خمسة أسابيع ـ وبعد ثلاثة أيام قضاها متطوعا كطبيب طوارئ في برونكس ـ لا يزال كاتز يعتقد أن هذا ممكن. وقد أوضح لي السبب، بادئا بما اكتشفه في عنبر الطوارئ.

قال كاتز "لعلك تظن أن العاملين في الصحة يتبنون رأيا متطرفا، وأنهم مشغولون فقط بالفيروس ويؤثرون إغلاق كل شيء، ولكن هذه ليست الرؤية التي صادفتها. كانت الرؤية أقرب كثيرا إلى التوسط: مراعاة العدوى، مع مراعاة مماثلة للتكلفة الباهظة لإغلاق كل شيء، ومراعاة لمرضاهم بالطبع، مع مراعاة لأنفسهم وعائلاتهم. كثيرون منهم كانوا شديدي الاهتمام بتسريح العمالة، والبطالة، واليأس الحقيقي المؤثر على الإخوة والأصدقاء المقربين".

لذلك ـ حسبما يصر كاتز ـ علينا أن نجتنب التقليل من الدرجة التي سيصل إليها تأثير البطالة المنتشرة والفقر والجوع واليأس على الناس إذا بقي الاقتصاد مغلقا بصورة شبه تامة. في الوقت نفسه، لا يمكننا أن نكتفي بالخضوع للمتظاهرين الذين يطالبون حكام ولاياتهم بإعادة فتح كل شيء دونما تمييز، ودونما بيانات أو استراتيجية صحية شاملة.

قال كاتز "ففي اللحظة التي تكف فيها عن احترام هذا الفيروس، فإنه سوف يقتل شخصا تحبه".

يرى كاتز أن أفضل استراتيجية تبدأ بما تنبئنا به الأرقام: "والمزيد والمزيد من البيانات تنبئنا بأن كوفيد 19 هو عبارة عن مرضين مختلفين كل الاختلاف في نوعين مختلفين من السكان. فهو مرض حاد ولعله قاتل بالنسبة للكبار والمرضى المزمنين وأصحاب الحالات المرضية السابقة على الإصابة به. غير أنه قليل الخطر على الحياة، يوشك أن يكون معتدلا ـ بل وفي الغالب عديم الأعراض ـ لدى من تقل أعمارهم عن الخمسين أو الستين ممن يتمتعون عموما بصحة جيدة".

ليس لدينا إلى الآن فهم مثالي لكيفية عمل الفيروس ـ فمثلا، إذا أصابك هل تتكون لديك مناعة منه. لذلك نحتاج إلى تأكيد الأنماط التي نراها من خلال المزيد من العينات العشوائية من السكان الأمريكيين سواء للعدوى أو للمناعة. لكن إذا تأكدت هذه الأنماط، فسوف تكون الاستراتيجية المثلى ـ حسبما يذهب إليه كاتز ـ هي "التقليل التام للأذى" إنقاذا لأغلب الحيوات والصحة من خلال "المنع الرأسي" vertical interdiction.

قال كاتز إن "ذلك يعني إيواء الضعفاء، مع السماح للقادرين على الرجوع إلى العالم بالرجوع إليه ـ وبذلك نسترد الاقتصاد، وسلاسل التوريد، والخدمات، مع زيادة الحماية الجماعية ومناعة القطيع التي تفضي إلى إعلان "نهاية الخطر". وبذلك نستعيد حيواتنا دونما انتظار للموعد البعيد غير المؤكد الذي سيتم فيه التوصل إلى المصل".

بالطبع سوف نحتاج إلى جيش من عمال الصحة العامة للاستمرار في إجراء التحاليل والاستمرار في الاتصال لكي نتكيف مع البيانات الجديدة، ونحد من الاختراقات وتحمي الأكثر عرضة للوفاة أو التضرر الشديد من كوفيد 19.

وخلاصة القول إن أمنا الطبيعة تخبرنا بأمر عظيم الشأن من خلال هذه الأزمة: "لقد تركتم كل شيء يخرج عن التوازن ويجنح إلى الحدود القصوى. لقد خربتم أنظمتي البيئية وأطلقتم العنان لهذا الفيروس. تركتم التطرف السياسي يدمر كياناتكم السياسية. وإنكم بحاجة إلى الرجوع إلى التوازن، وذلك يبدأ باستخدام جهاز المناعة الذي منحتكم إياه".

ويخلص كاتز إلى أن مناعة القطيع، التي تبدأ بعد تعرض حوالي 60% من السكان للفيروس والتعافى منه، "هي على مر التاريخ طريقة الطبيعة في إنهاء الأوبئة. نحن بحاجة إلى الانحناء لقواها، مع تركيز خدماتنا الصحية والخدمات الاجتماعية على حماية الأكثر ضعفا ممن يحتاجون إلى الإيواء إلى أن يتوافر المصل".