صصصصص
صصصصص
المنوعات

قراءة أدبية بصرية في الآثار والدلالات .. وادي الصفافير بقرية لزغ بولاية سمائل.. حيث المصهورات النحاسية تفترش الأرض

28 أبريل 2020
28 أبريل 2020

- عمر الندابي: الموقع الأثري مخصص لتصفير المعادن واستخراج بعض الأدوية من الحجر

مدخل وادي الصفافير[/caption]

كتب: ماجد الندابي

عمر الندابي[/caption]

أمشي بخطى متسارعة أحاول أن أصل إلى وجهتي قبل أن تحرقني أشعة الشمس المطلة من قمم الجبال وكأنها عمائم الرجال، تمشي وأنت تحاول أن تترك جانبا كل ما سمعته وقرأته عن هذا المكان، وذلك لتستكشف تفاصيله عبر حواسك، وتستحضر سكانه وتتخيل معيشتهم وحياتهم اليومية، وتستنطق المكان والآثار.

وادي الصفافير الواقع في قرية لزغ بولاية سمائل، هو أحد المواقع الأثرية القديمة التي ما زالت شواهده وآثاره دالة عليه.

وأنا أمشي أتذكر كلام أخي علي عندما كنت صغيرا حين أخبرني أنه دخل ما يعرف محليا بـ"بيوت الفرس" الموجودة في وادي الصفافير، فأسأله ببراءة الطفولة "حد موجود هناك" فيجيبني أن البيوت خالية، فتسعفني مخيلتي الكرتونية لتصور لي شكل البيوت وأبوابها وكيف أنها خالية لا يوجد بها أحد، وأعقد العزم على أنني عندما أكبر سأذهب إلى تلك البيوت، لعلي أعثر على مقتنيات نساها أصحابها داخل تلك البيوت.

شوكة شجرة السمر تقطع أفكاري وهي تخترق نعالي لتصل إلى باطن قدمي لتعطي المستشعرات الحسية إشارات عاجلة وسريعة إلى الدماغ ليقوم بتوجيه تلقائي لرفع القدم وانتزاع الشوكة من النعال، ليبقى الألم يرافقني في هذا التجوال، شجرة السمر التي تعرف علميا بأنها من عائلة أشجار "الأكاسيا" تنتشر بكثافة في وادي الصفافير مما يدل على أنها كانت مصدر الوقود الرئيسي في عمليات صهر النحاس في هذه المنطقة.

المصهورات النحاسية

الزرنيخ الأخضر وهو يظهر على إحدى المصهورات[/caption]

أول ما يصادفك من أثار وادي الصفافير هي تلك المصهورات النحاسية التي جرفتها مياه الأمطار لتجدها متناثرة هنا وهناك، إلى أن تصل إلى نقطة تجميع تلك الصُّهارات النحاسية التي تفترش الأرض بكميات كبيرة، في منظر ملفت، وقد تأكسد بعضها وظهر على نتوءاتها مادة الزرنيخ الأخضر، تمسك بيدك إحدى تلك المصهورات لتتبين خطوطها وفجواتها وأشكالها، التي تشبه إلى حد كبير أشكال النيازك المنصهرة، عن يسار تلك المصهورات مجرى مائي للشراج المنحدرة من الجبال المحيطة بهذا الموقع الأثري، وعلى الضفة الأخرى من هذه الشراج يوجد مكان الفرن الذي كانت توقد فيه النار ليتم الصهر، وذلك باستخدام حطب شجر السمر المعروف بصلابته، وقوة حرارة النار المنبعثة منه أثناء إحراقه، هذا الفرن لم يبق منه غير تربته وحجارته السوداء التي على شكل نصف دائرة والتي تميزه عن البيئة المحيطة به والتي دلت المستكشفين على موقعه.

ولكن من المستغرب وجود كميات كبيرة من فتات حجر الكوارتز الأبيض بالقرب من موقع الفرن، والذي لم أجد له تفسيرا، هل كان حجر الكوارتز يستخدم في هذه العملية، أم أن معدن الكبريت كان مرتبطا بحجر الكوارتز، فلذلك قاموا باستخدامه لإشعال النار، أم له تفسير آخر.

بالقرب من هذا الموقع يوجد أساسات قديمة من الحجارة للبيوت التي يسكنها أصحاب هذه الحرفة، وقد أتى الزمن عليها وخلف آثارها من الحجارة المرصوصة فوق بعض، وفي جهة أخرى توجد مجموعة من القبور الأثرية التي بنيت بشكل دائري وهذه الطريقة في القبور متشابهة مع القبور التي عثر عليها في مناطق مختلفة من السلطنة والتي بنيت بهذا الشكل الدائري الصخري. بالقرب من منطقة وادي الصفافير وعلى بعد 3 كيلومترات شمالا وسط الجبال توجد أيضا قبور أثرية بهذا الشكل، فهل هذه المنطقة هي امتداد لتلك المنطقة، لأني لم أطلع على دراسات تربط هذين الموقعين الأثريين ببعض.

ملمح جديد

بعض شواهد القبور الأثرية[/caption]

وأشار أحد أهالي القرية إلى ملمح جديد في ما يتعلق بهذا الموقع، في كونه تستخرج منه بعض الأدوية من الحجارة الموجودة فيه، فيقول عمر بن سليمان بن ناصر الندابي أحد المهتمين بهذا الموقع والباحثين عن أهم تفاصيله: "تمتاز منطقة الصفافير في قرية لزغ ببعض الآثار كالقبور والمنجم الذي كما يبدو أنه كان مخصصا لتصفير المعادن واستخراج بعض الأدوية من الحجر والنحاس الذي يستخدم للعلاج الخارجي كطفوح الجلد وآلام المفاصل.

وأضاف "تشير الدراسات أن هذا المنجم للاحتلال الفارسي لعمان منذ ما يقارب 600 عام، وقد قامت وزارة التراث والثقافة مشكورة بتوثيق المنطقة الأثرية بشكل رسمي ووضع لوائح إرشادية للحفاظ عليها".

ويؤكد عمر الندابي على أن "اختيار الفرس هذه المنطقة للتعدين يعود بشكل رئيس إلى توفر كميات كبيرة من الوقود النباتي للتعدين وهو خشب السمط ( السمر) والذي يتميز بقوة الاشتعال وبطء الإخماد".

معرجا على استنطاق اسم القرية ودلالاته التاريخية فيقول: "قرية لزغ تعتبر قرية حديثة من حيث السكن وقد لا تتجاوز 250 عاما فكيف أطلق عليها هذا الاسم (لزغ )؟!"

ويضيف: "هناك رواية قديمة متداولة بين أهالي القرية حول سبب تسمية القرية بلزغ ولكن لا تبدو منطقية بتاتا وهي تعود إلى بئر على طرف القرية كان الماء كما يسمى بالعامية (ملغ) أي غير عذب ومن هنا اشتق اللفظ لزغ والذي كما يبدو أنه لا يوجد له أي رابط من حيث التركيب ولا المعنى".

وعندما سألته عن تفسيره لأصل هذه التسمية من وجهته أجاب: "هذه التسمية ليس لها أصل في اللغة العربية بتاتا لأني بحثت في كل المعاجم العربية حول هذا الجذر اللغوي فلم أجد أصلا له أو معنى يدل عليه.. فتبادر إلى ذهني أن هنالك إمكانية أن يكون هذا الاسم ليس عربيا".

بعض فتات حجر الكوارتز الموجود بجانب الفرن[/caption]

وبين أن: "هناك بعض الدراسات تشير إلى أن بعض المناجم الفارسية تستخدم في استخراج بعض الأدوية منها (لزاق الحجر) والذي يستخدم لعلاج آلام المفاصل."

فبادرته بالسؤال "هل أتت لزغ من لزاق"؟! فأجابني: " لا يوجد ما يثبت ذلك ولكن هناك فرضية وهي أن هذه اللفظة تستخدم في اللغة الفارسية القديمة ولها نفس المعنى في اللغة العربية إلا أن النطق الفارسي يختلف في حرف القاف. الفارسية تنطق القاف النطق نفسه لحرف الغين في العربية.. مثلا كلمة لزاق تنطق بالفارسية ( لزاغ).. فهل كانت لزاغ (بالنطق الفارسي) مادة تستخرج للعلاج من منجم الصفافير وعلى إثره سميت المنطقة بها.. يحتاج الأمر إلى تقصٍ ودراسة مستفيضة".

يبدو أن تسمية هذه المنطقة بوادي الصفافير هي تسمية حديثة، وكما هو معلوم أن العمانيين يطلقون على النحاس مصطلح الصفر، وهو النحاس الأصفر الذي يخلط معه معدن الزنك، ويتميز بلونه الأصفر، ويطلق على الناس الذين يعملون بهذه الحرفة، مصطلح "الصفارين" أو "الصفافير" وهم الذين يقومون بجلي الأواني النحاسية، وإزالة الزرنيخ الأخضر منها باستخدام الحرارة وبعض المنظفات، ومن هنا اشتقت هذه التسمية لهذا الوادي، وهو وصف للمشتغلين بالنحاس.

لم يبح هذا الموقع بكل أسراره ومكنوناته، وتبقى الكثير من الأسئلة تنتظر من يجيب عليها من خلال البحث والدراسة والمقارنة والاستقراء.