رررر
رررر
المنوعات

مرفأ قراءة... الساخر محمد عفيفي... موليير الأدب العربي!

25 أبريل 2020
25 أبريل 2020

إيهاب الملاح

(1)

الكاتب الساخر محمد عفيفي[/caption]

 

(الكاتب الساخر محمد عفيفي).. عبارة قد لا يكترث لها الكثيرون هذه الأيام، وقد تمر مرور الكرام على من يعد نفسه (كاتبا ساخرا) أو على الأقل يصدر نفسه لجمهور القراء باعتباره كذلك، وهناك أجيال لا تعرف اسم محمد عفيفي من الأساس، والمصيبة الكبرى أن بعضهم يقول عن نفسه إنه يكتب أدبا ساخرا، وحاشا لله أن يكون ما يكتبه أدبًا، وحاشا لله أن يكون ساخرًا.

وضعية هؤلاء بالنسبة لمحمد عفيفي مثل وضعية من يدعي الاشتغال بالتاريخ والآثار ولا يعرف ما الهرم الأكبر! أو يقول إنه كاتب روائي (وما أكثر من يدعون ذلك) ولم يسمع بنجيب محفوظ!

عمومًا، وطلبًا للاختصار فإن العبارة المقصودة، على بساطتها ووجازتها، تردنا إلى مشهد ثقافي باذخ وعامر منتصف القرن العشرين، وحتى الربع الأخير منه.. في قلب المشهد تتألق (شلة الحرافيش) أشهر شلّة (جماعة أدبية) في تاريخ الأدب العربي المعاصر، نواتها وقطب الرحى فيها عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وحوله تحلَّق كوكبة من المبدعين والفنانين من الصعب أن يجتمعوا في زمن واحد بمثل هذه الكثافة وهذا الوهج والتوهج، خذ عندك بالإضافة إلى نجيب محفوظ، ضمت الحرافيش كلا من عادل كامل، رفيق محفوظ ومعاصره وصاحب العملين البارزين في تاريخ الرواية العربية (مليم الأكبر)، و(ملك من شعاع)، وصلاح جاهين مجمع مواهب إبداعية كما كان يصفه محفوظ، وأشهر فرسان السينما المصرية الفنان أحمد مظهر، والمخرج السينمائي توفيق صالح، وآخرون.

(2)

من بين ألمع نجوم هذه الكوكبة، سالفة الذكر، يسطع اسم الروائي والكاتب الصحفي الساخر محمد عفيفي (1922 - 1981)، أحد أبرز أقطاب شلة الحرافيش، وأحد أقرب أصدقاء نجيب محفوظ، وأكثرهم حساسية وفهمًا وإدراكًا لظاهرة محفوظ الإبداعية، فضلًا عن أنه كان واحدًا من أصحاب الأساليب الآسرة في الكتابة العربية المعاصرة، وكانت مقالاته ظاهرة كتابية وصحفية لم تنل ما تستحقه بعد من دراسة واهتمام.

كان نجيب محفوظ يعتبره (أحد الساخرين العظام)، ويقرنه بالجاحظ والمازني في تراثنا العربي القديم، أما يحيى حقي فكان يعده (حامل لواء الفكاهة في مصر). ويقول عنه صديقي الناقد الكبير محمود عبد الشكور:

كنت دومًا أعتبر محمد عفيفي من كبار الساخرين، وكنت شغوفًا بقراءة مقالاته هو وأحمد رجب في صحف ومجلات دار (أخبار اليوم) في السبعينيات.

كان نجيب محفوظ يحترمه ويجلّه ويراه صاحب ثقافة موسوعية عميقة وحقيقية، يقول عنه (نهل محمد عفيفي من بحر الثقافة بعمق وشمول وقام في ذلك برحلة طويلة بدءًا من التراث وحتى أحدث ما تموج به من تيارات فكرية وفنية واجتماعية، ومع ذلك فقد عُرف بالكاتب الساخر، فمنذ زمن مبكر جدًا اكتشف عبثية الوجود والمجتمع، وتابعهما بعين متفحة في الطبيعة والعلاقات الاجتماعية والتقاليد البشرية والحياة اليومية).

وبقدرته التصويرية الفذة، يبدع محفوظ في تحديد الملامح العامة لهذا البورتريه الإنساني المكثف لصديقه المقرب (كان ذلك جديرًا بأن يجعل منه مفكرا متجهما كأبي العلاء المعري أو شوبنهور أو أديبا غاضبا مثل بيكيت، ولكن طبيعته اللطيفة الودودة اختارت له أن يمضي كاتبا ساخرا، وأن يعبّر عن سره الدفين بالدعابة والنكتة والملحة وأن يشيع البهجة والابتسامة بديلا عن الحزن)..

(3)

التفاحة والجمجمة[/caption]

اشتهر في الأوساط الأدبية بكتبه الساخرة، وهي كمّ ليست كثيرة أو غزيرة بالمعنى، ولا نستطيع أن نقول أيضًا إنها قليلة، لكن كتابين اثنين منهما حازا شهرة كبيرة، هما (ترانيم في ظل تمارا)، و(التفاحة والجمجمة) وهما الكتابان اللذان كان لي شرف المساهمة في إصدار طبعة جديدة منهما في دار الشروق المصرية خلال العامين الماضيين.

وكم تمنيت وتمنى معي الكثيرون أن تضطلع دار الشروق (أو غيرها) أن تكمل مشروعها الذي بدأته بإصدار (ترانيم في ظل تمارا)، و(التفاحة والجمجمة) فتصدر الأعمال الكاملة للراحل الكبير، حتى يستطيع القارئ والناقد أن يرى تلك الرحلة الصعبة والفريدة والمهمة في عالم الكتابة والأدب المصري والعربي الحديث.

خصوصا أن رحلة عفيفي عامرة بالكتابات والمؤلفات الأخرى التي ضمت رحلاته وتأملاته ومقالاته التي كان يتحف بها الصحف المصرية والعربية منذ الأربعينيات وحتى رحيله مطلع الثمانينيات.

كان رحمه الله واحدًا من كبار كتاب المقال الصحفي الساخر، والتأملات الذاتية الممزوجة بلسعة تفلسف وبلطشة فن (بتعبير المرحوم صلاح عيسى).

لقد كانت (السخرية) بمعناها الفلسفي وبمعناها التعبيري والأسلوبي، هي محور حياة محمد عفيفي، ينبض بها قلبه، ويفكر بها عقله، وتتحرك فيها إرادته، فهي ليست بالثوب الذي يرتديه عندما يمسك القلم، وينزعه إذا خاض الحياة، ولكنها جلده ولحمه ودمه وأسلوبه عند الجد والهزل.

أذكر أن من أظرف بل وأعمق كتابات محمد عفيفي مقاله الشهير جدا جدا عن صديقه نجيب محفوظ الذي أطلق عليه (رجل الساعة)، وكذلك المقال الذي ينفي فيه عفيفي بذكاء أنه إحدى شخصيات رواية (الشحاذ).

أما درة مقالاته وأعمقها، فى رأيي، فمقال (طريق الحياة والفن) الذي خصصه عفيفي للحديث عن رواية (الطريق) لنجيب محفوظ، ويكشف هذا المقال عن حس نقدي معتبر وخطير لدى عفيفي، ودراية واسعة بفن الرواية وتطوره في القرن العشرين، وكان يجب أن يضاف هذا المقال بالإضافة إلى مقالاته الأخرى التي خصصها لنجيب محفوظ وأدبه، إلى المجلد الكبير الذى جمعت فيه المقالات النقدية عن روايات محفوظ بعد فوزه بنوبل.

(4)

من إصدارات محمد عفيفي[/caption]

أصدر محمد عفيفي، وهو في صدر الشباب، مجموعة قصص هي: (أنوار)، صدرت في 18 يونيو 1946، وضمت ست عشرة قصة قصيرة، ومقدمة طويلة كتبها بنفسه لكي يقدم أعماله للقارئ، ولكي يضع يده على المشاكل الأساسية في الكتابة الأدبية.

يقول المرحوم علاء الديب عنها (في هذه المقدمة الطويلة التي تبلغ الخمسين صفحة، يقف محمد عفيفي فارسا حقيقيا، ورائدا في الفكر الفني والأدبي الحديث).

ولقد قسّم عفيفي مقدمته الطويلة هذه إلى ثلاثة مباحث، الأول في لغة القصة، والثاني في اللغة العامية والأدب، والثالث في لغة الحوار.

وربما تكون هذه المقدمة مع مقدمة عادل كامل الطويلة أيضا لروايته التأسيسية (مليم الأكبر) هما بيانان حداثيان قدما نظرة متطورة ومختلفة عن السائد والمألوف للأدب عموما والبلاغة الكلاسيكية وأشكال الكتابة والأنماط التعبيرية السائدة والدعوة إلى مجاوزتها والخروج عليها... إلخ.

(5)

ترانيم تمارا[/caption]

وقليل من الببليوجرافيا لا يضر لمن لا يعرف هذا الكاتب العملاق من الأجيال الجديدة، ومن المتصلين بالكتابة والباحثين عن دروبها وأسرارها، أقول لهم إن محمد عفيفي، كاتب مصري ساخر معاصر لنجيب محفوظ، أطلق عليه معاصروه (موليير) مصر، كانت السخرية محور حياته عند الجد والهزل وفي السرور والحزن.

وبحسب (قاموس الأدب العربي الحديث)، فقد ولد محمد عفيفي أو محمد حسين عبدالوهاب العفيفي بقرية (الزوامل) القريبة من أنشاص - مركز بلبيس بمحافظة الشرقية، في 25 فبراير 1922.

بدأ رحلته الصحفية مع أمير الصحافة العربية وألمع نجومها آنذاك، محمد التابعي، بمجلة (آخر ساعة) في منتصف الأربعينيات، وعمل عامًا واحدًا في مجلة (اضحك) التي كانت تصدر عن مسامرات الجيب عام 1945، ثم عمل في أخبار اليوم من أول يونيو 1950 إلى 31 مارس 1964، وحرَّر باب (ابتسم من فضلك) عام 1945 في مجلة (آخر ساعة)، وكتب (يوميات) آخر ساعة عام 1959.

كتب محمد عفيفي القصة القصيرة، وأصدر عام 1944 - 1946 مجلة (القصة( وأصدر مجموعة قصصية عام 1946 بعنوان (أنوار)، كما أصدر روايته المهمة (التفاحة والجمجمة) (1966). وله عدة كتب سجل فيها مشاهداته ورؤاه الناقدة الساخرة مثل (سكة سفر) (1967)، و(حكاية بنت اسمها مرمر) (1967)، و(فانتازيا تاريخية) (1967)، و(ابتسم من فضلك) (1971)، و(فانتازيا فرعونية) (1973)، و(للكبار فقط) (1975)، و(ابتسم للدنيا) (1977)، و(ضحكات صارخة) (1980)، و(ضحكات عابسة)، و(ترانيم في ظل تمارا) (1984)، و(تائه في لندن) وصدرت جميعا عن سلسلة (كتاب اليوم).

وقد حصل محمد عفيفي على شهادة تقدير من الدولة في الإبداع عام 1978، وتوفى بمرض السرطان في الخامس من ديسمبر عام 1981.