٢٢٣٣٣
٢٢٣٣٣
أعمدة

عن مفاهيم تهتز وأخرى تتشكل!

22 أبريل 2020
22 أبريل 2020

عماد البليك

فتحت جائحة كورونا العديد من الأسئلة في العالم حول قضايا الحريات والديمقراطية، أين تبدأ حرية الفرد وأين تنتهي؟ وأين يمكن للدولة أن تتدخل لترفع من سقف معين أو تدليه إلى أسفل بحسب ما يتطلبه المشهد أمام وباء قاتل يفتك بالآلاف من البشر دون هوادة، أو مراعاة للحواجز التقليدية والمعتادة في الحياة ما قبل كورونا.

قبل شهور وجيزة لم يكن لأحد أن يتخيل كثيرا مما يشكل مشهد العالم اليوم، من إغلاق تام في الملاعب وأماكن الترفيه ودور العبادة والمتنزهات ومدن كاملة أصبحت خالية شوارعها من البشر، ومطارات أصبحت مخازن للطائرات، وغيرها من الصور التي لا يمكن حصرها التي كادت تضاهي مشهدا من الأحلام الكابوسية التي توقظك في منتصف الليل، وتقلقك بحيث لا تعرف على من تكون، إلا ساعة تتأمل وجهك في المرآة، وتتكلم على شاكلة محمود درويش "أأنت أنا؟".

فالخيال البشري الذي يظل مطلقا ويشكله الواقع الذي يصنعه البشر أنفسهم، يظل في نهاية الأمر محدودا بالوقائع التي تحدث في حياة الناس، لكنه بعدها ينفتح إلى مطلق التوقعات بحيث لا يمكن لنا أن نعرف أو نفهم ما هي الخطوة التالية. هذا ما يحدث عادة على مدار ترسبات التاريخ البشري، وفي عمق التجارب الإنسانية المتوالية، التي لا تعرف متواليات يمكن رسمها بدقة، حتى لو قيل إن التاريخ دائري، فهو لا يستدير بذات الطريقة بل في كل مرة يخلق ما يعرف بـالـ "برادايم" أو النموذج الفكري المختلف.

لقد أربكت جائحة كورونا كل ذلك، جعلت الخيال نفسه في محل استفهام كبير وتساؤلات، هل نحن كبشر نمتلك فعلا الخيال الكافي لخلق واقع جديد، لقد استطاع الإنسان بالفعل أن يشيد حضارة كبيرة وعظيمة، لكن أي طريق طويل ينتظره باتجاه المستقبل بأن يحقق المزيد، ليكون هذا الاختبار أمام هذا الفيروس المجهري درسا يمكن أن نستلهم منه الكثير جدا.

هذا يعني أن علاقتنا بشكل عام مع الخيال والتخييل يجب أن يعاد النظر فيها؟ وربما فتح هذا المجال لنشوء علوم جديدة في مجال الدماغ والإبداع والتنمية البشرية عموما، بعيدا عما أسس له توني بوزان صاحب فكرة الخرائط الذهنية والكتاب المشهور "استخدم عقلك" الذي نشر لأول مرة سنة 1974 وشكّل بداية لفهم جديد لموضوعات الذاكرة وفهم الدماغ وكيفية بناء التخييل الجديد.

على سبيل المثال، لقد كانت مفاهيم مثل الحرية والسجن والبيت، تؤخذ على تعريفات محددة وفق التجربة الإنسانية المتراكمة عبر القرون، وكان ثمة من يعتقد أن تغيير مفهوم أو قيمة معينة يتطلب وقتا طويلا، بحيث إن فكر التغيير لا يعمل إلا عبر إحلال مستمر ولا يحتمل القفزات، لكن في الظرف الراهن أصبح أمامنا عالم يتشكل بوجهة جديدة وسريعة في الآن نفسه.

لهذا فإن قراءة كتاب مثل "جماليات المكان" للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، سوف يبدو ضروريا في هذا الوقت، لأن الوقت مناسب جدا لفهم هذا المكان الذي اسمه البيت بصورة مختلفة، تلك الألفة التي تتشكل مع هذا الموضع من الأرض الذي يرتبط به الكائن وسيصبح عليه إجرائيا مع هذه الجائحة، أن يقف في مقابله بتصورات غير مكتشفة من قبل، هذه العلاقة التي تتطلب المزيد من التفكيك، ومراجعة كذلك تداخل صورة البيت بالمكتب، بالجدار والسجن الخ..

أيضا وبالإضافة لبعد المكان فإن البعد المعنوي، أو الزمكان المطلق، يضعنا أمام إعادة تشكيل لعدد من المفاهيم الراسخة في وقت وجيز، بما في ذلك مفاهيم اجتماعية بعضها يرتبط بمناظيم الوعي التقليدية كصلة الرحم وغيرها، وحتى لو بد ذلك مؤقتا وعجولا، فما من لاشك فيه أنه سوف يلقي بظلاله على المستقبل، ولن يمر بهذه البساطة.

إذا كانت انجيلا ميركل المستشارة الألمانية قد شبهت العزلة الحالية بـ"السجون"، وهي تطرح السؤال، متى سوف يخرج الناس من هذه السجون؟ فهذا يعني أنها تعترف ضمنيا بأن الحرية الشخصية تتعرض للانتهاك باسم هذا الوباء، وهو أمر لابد منه في ظل الحفاظ على السلامة العامة وإلا تحول المشهد برمته إلى شكل فظيع لا يمكن تصويره، أفظع مما هو قائم في الراهن.

الصورة المقابلة هي إطلاق السجناء من معاقلهم التي دخلوها عقابا على جنايات ارتكبوها، هنا كان التعاطف الإنساني والرحمة بهم، من انتشار الوباء القاتل بينهم، في المقابل فهم سوف يذهبون من سجن إلى "سجن آخر" في البيت – بتصوير ميركل – برغم أن الأخير قد يكون أرحم، وقد لا يكون بحسب التجربة الذاتية لكل منهم.

ربما ومنذ عقود وربما قرون لم يتعرض البشر لمثل هذه العزلة الأرضية التي سجنت أكثر من نصف سكان الكوكب، وهو مشهد يبدو سيرياليا قياسا لمفهوم السيريالية التي تهتم بتوصيف تصورات غير واقعية أو تعيد تركيب فكرة الواقع بناء على الاختلاق والجنون ولغة غير المنطق. ما يعني أن مدارس فنية، أيضا كرؤى فلسفية وقيم إنسانية، سوف يعاد النظر فيها كذلك.

وقد ربط أدونيس في كتابه المعروف "الصوفية والسيريالية"، بين المفهومين اللذين يتقابلان الآن بقوة مع هذه المرحلة من التاريخ الإنساني، في امتداد رؤيا العزلة وتجلياتها القاسية، التي تمكن الفرد في الخلاصات من استكشاف الذات وإعادة إنتاجها إن شاء، بناء على درجات الوعي الفردي.

يجب الإشارة إلى أنه دائما ما تم الربط بين مفهوم العزلة والإبداع، أي أن العزلة هي مرادف الحرية الذهنية، لهذا كان المخلصون والأنبياء وكبار المتصوفة والرسامون والشعراء يقومون بمثل هذا النوع من الأداء الذاتي المنقطع عن العالمين، حيث يتاح للمرء التأمل والتدبر والتفكير وتوليد الفكر الجديد، لكن ما يطرح هنا هل نحن أمام عزلة إبداعية أم هي متشددة وقاسية لا تسمح بالتأمل السوي!

يبدو أن العزلة الاختيارية هي شيء مختلف عن تلك المقيدة، إذ سوف يبرز مفهوم الحرية هنا، الذي يتعرض للاهتزاز، في أجواء هذه الجائحة.