٣٣ثثث
٣٣ثثث
المنوعات

في دوائر العزلة

20 أبريل 2020
20 أبريل 2020

ملف تأملات في العزلة المنزلية ومآلات الكون

بشرى خلفان

لقد بدأت منذ مدة في كتابة روايتي الثانية، لذا فأنا لا أذهب إلى النوم وحيدة ولا أستيقظ وحيدة، بل أنام مع حشد من الوجوه والأسماء والأقدار، وكل صباح يتولى واحد منها إيقاظي.

أحيانا يفعل ذلك بهدوء كولد طيب، وأحيانا يأكل أذني كطفلة شقية، أحيانا يرفسني في خاصرتي مثل جنين، وأحيانا أجده قد تسلق ولبد فوق وجهي، مثل رضيع لتوه تعلم كيف ينقلب في فراشه.

يتكاثرون من حولي، ويدخلون في صراعات لا مبررة، تدفعني للقفز من سريري، وإزاحة ستائري بأسرع ما يمكنني، كي أستقبل ضوء أول النهار فيهدأوا.

أستدير وأبتسم، أمسح على رؤوسهم واحدا واحدا، أطلب منهم أن يصطفوا ثم أن يغادروا في خط مستقيم، ويعودوا إلى صندوق الحكايات كأطفال مهذبين.

أما أنا فأضع ساعة المشي في معصمي، وأبدأ في الحركة، واضعة في حسابي أني لن أجلس لشرب فنجان القهوة الأول، قبل أن أكمل الألف خطوة الأولى، لقد كانت تعليمات طبيبي واضحة في هذا، وأنا لن أخيب ظنه، في هذه على الأقل.

وما أن يقول العداد أني أكملت الألف خطوة، حتى أنزل إلى حديقتي فأتفقد شجرة الورد القزمة التي أضفتها أول السنة إلى حاشية المدخل الصغيرة، فأسقيها، وأحيانا أسألها عن حالها، وأهمس لها أني هنا لأجلها، وأعرف أني كاذبة، فأنا لا أعرف أي شيء عن التمثيل الضوئي كي تلجأ إلي إذا ما تعسرت، ولن أكون بديلا للكلوروفيل أبدا، مع ذلك، فحوارنا القصير في الصباح وإن بدا من طرف واحد، كان كفيلا بأن تفاجأني بين الحين والآخر بتفتح وردة.

أجلس في الظل لتناول إفطاري وشرب فنجان القهوة الأول، وللتنعم بهدوء الصباح المثالي، وفكرة أن لا شيء ينتظرني خارج البيت، كي أضع مكياجي وأهرع كالمجنونة إليه، وأن العالم صار أقل تلوثا لأن بصمة الكربون التي كنت أوزعها في الهواء قد وصلت لأقل درجاتها.

ربما أستغرق ساعة وأنا أرتشف قهوتي الأولى، وإن كنت أصحب كتابا شيقا، فسأبقى في الحديقة حتى الضحى، ثم أقوم وأبدأ في المشي ثانية، ولا أجلس للكتابة حتى أكمل ألف خطوة أخرى، لكني لا أمشي وحيدة هذه المرة، فالشخصيات خرجت من صندوق الحكاية، وعادت لترافقني في زفة مقدارها ألف خطوة إلى مكتبي، حيث أزيح الستائر وألقي التحية على جارة متخيلة، تلوح لي من نافذتها.

جارتي يابانية وتعمل في منظمة جايكا، وتحب أشجار البونسو، وتعزمني أحيانا على فنجان من شاي الياسمين، لكنها لا تتبادل الأطباق معي في رمضان، فهي لا تجيد طبخ شيء غير السوشي ولا تفقه في علم المثلثات ولا لف السمبوسا.

مع ذلك، فهي موجودة خلف زجاج المخيلة، ونحن نتبادل القبل الطائرة كل صباح، دون أن يقاطعنا حضور الواقع، أو ضوضاء من أي نوع، فمنذ أن سكنت هنا، لم أشكو من الصخب إلا نادرا، فهذا الحي هادئ نسبيا، حتى أني لا أكاد أسمع فيه إلا زقزقة العصافير، وهديل الحمامات في الصباح، أما بعد صلاة العصر فيتناهى إلى سمعي، صوت الكرة والأولاد الذين يتقاذفونها في الساحة الخالية وراء المسجد، أو بكاء بعض الأطفال الرضع عندما تدحرج المربيات كراسيهم في جولاتهم المسائية، ولكن قبل ذلك أسمع أصوات سيارات آبائهم وأمهاتهم، العائدة من الأماكن التي تذهب إليها كل صباح، سيارات مهذبة، تكاد تمشي في طرقات الحارة بلا صوت.

أما في الليل فلا يخلو الأمر من صوت سيارة منفلتة، تمرق كالسهم في شارع بعيد، وقبل أن يذهب الليل إلى آخره، تتعالى أصوات الكلاب النابحة في أطراف الحي، يخالطها في بعض المواسم مواء قطط يائسة، لا تكف عن تسلق الجدران.

بعد الضحى، أجلس إلى مكتبي، وأبدأ في النقر، نقر لا معنى له، لا يقودني في أول ساعة لأبعد من البقالة التي عند المنعطف، ثم أجدني أعود مرة أخرى، فأظلل نقري السابق كله وأحذفه بنقرة أيضا، وهكذا أكون قد مسحت أكثر مما أطمح لكتابته في ذلك اليوم، لكن هذا الفعل يشعرني بالارتياح، ارتياح من قال كل الهراء الذي لديه، ثم وقف ليلتقط أنفاسه ويغادر، دون ضغينة، ودون ندم.

وهكذا أقوم فأصنع كوب قهوتي الثاني، وأثناء ذلك أمشي ألف خطوة أخرى، وعندما أنتهي، أعود لشخصياتي التي تنتظرني بسأم فوق مكتبي، فأبدأ في النقر، وإن لم تقاطعني قططي بموائها وجوعها وحبها الطبيعي للعب والنوم على لوح الكتابة، فيمكنني أن أقضي ثلاث ساعات في كتابة فصل جديد أو تضبيط فقرة واحدة على الشاشة أمامي.

لكن سير عد الخطوات الملتف حول معصمي ينبهني كل ساعة، أن عليّ أن أقف وأتحرك قليلا، وهكذا فعندما يحين وقت الغداء أكون قد كتبت حوالي خمسمائة كلمة، ومشيت خمسة آلاف خطوة، فأركن لمشاهدة مسلسل قديم أثناء الغداء، وأتعمد بطبيعة الحال، اختيار واحدا من تلك المسلسلات التي لا يتذكرها إلا من عاش التسعينات بكامل خيباتها.

في العصر، تناديني حديقتي مرة أخرى فأخرج إليها وأكمل المشي، لكن ضحكات الأطفال لم تعد موجودة، ولم يعد الصبية لتقاذف الكرة في الأرض الخالية، ولا يجرؤ أحد على إشعال محرك سيارته. فقط المؤذن وحده، يتسلق منارته ويؤنس الحي بالأذان والأدعية.

ثم يأتي الليل، صديقي الليل، فأشعر بسكينة العالم تحط عليّ، أصعد إلى السطح، فأطل على بيوت جيراني، أحاول أن أتخيل حيواتهم خلف الأبواب والنوافذ، الحزن والصراخ والسكاكين المختبئة في الأدراج مع الأسرار والضغائن الصغيرة، أتخيل أفراحهم أيضا، واللذات المسروقة من كعكات الليمون والحكايات المختصرة لشجرة العائلة، والأفلام الرومانسية التي لا تنتهي بموت أحد.

أترك فضولي المعلق ببيوت جيراني، وأعود للنظر في السماء، متخيلة نفسي وحيدة في صحراء الله، والنجوم قناديل تدلني على طريق مختصر إليه.

أبقى هناك مدة، أرعى نجوما بعيدة وأطيافا كانت ثم بادت، ثم أنزل إلى مكتبتي وكتبي، فأعود لقراءة ما كنت مستغرقة فيه قبلا، أو أبحث على الأرفف عن سفر جديد أذهب فيه، حتى تأتي كائناتي الأثيرة، فتستلني من مكاني وتأخذني للنوم وتستأثر بأحلامي، وفي طريقي إلى هناك، أكمل الإحدى عشر ألف خطوة المتفق عليها، فأخلع بعدها سير المشي وأشبكه بالشاحن، وأنام لأستعد ليوم آخر، أقضيه في المشي في دوائر لا نهائية، بين ما يسر به الخارج وما يضج به الداخل، بين حدة الواقع وهشاشة المتخيل، متنقلة بهدوء بين أزمنة كثيرة، وصبابات أكثر، لكنني أعيش يومي بحضور كامل، وأنا أردد في أوله وفي آخره "شكرا يا الله، لمنحي هذا اليوم أيضا".