عوض
عوض
المنوعات

القرب والبعد في زمن كوفيد 19

20 أبريل 2020
20 أبريل 2020

ملف تأملات في العزلة المنزلية ومآلات الكوت

عوض اللويهي

وضعت جائحة كورونا "كوفيد 19" البشرية كلها أمام منعطف تاريخي وفكري ومعرفي، فالبشرية لا تحتفظ في ذواكرها المختلفة الثقافات والمنابع بمثل هكذا حدث. كما أننا نشهد، ونحن نعيش في زمن الألفية الثانية، حدثًا سيكون له أثره وسردياته للأجيال. إن كوفيد 19 لا يبدو أنه ضيف عابر كبقية الجوائح التي مرت على البشرية. هذه الجائحة تعيد رسم فهمنا للاتصال المجتمعي، والمسافة الاجتماعية، حدود الجسد وكيفية حمايته، ليس حمايته من شيء معلوم بل من المجهول الغامض. ليس هناك ما يمكن للبشر العاديين أن يفعلوه سوى الانكفاء عن اتجاه العاصفة حتى تمر.

منذ بدايات الحديث عن كوفيد 19 كان ثمة ربط متقصد لوصف هذا الفيروس بـ"المستجد"، وهذا ما تكشفت عنه الأيام المتتالية، بحيث أن هذا المستجد انطلق من دائرة الغموض ويزداد غموضًا بمرور الأيام، تتجدد السيناريوهات والتوقعات كل يوم، وفي كل يوم بل وفي كل ساعة يكتشف الجميع حيرتهم وخوفهم وهلعهم أمام صرامته وقوة اندفاعته. تضعنا الجائحة أمام لحظة مراجعة شاملة لخبراتنا ومفاهيمنا عن المرض والموت والحياة.

لعل من أبرز ما يلفت النظر في أمر الجائحة اتساع الهوة بين قطبي القرب "الاتصال" والبعد "الابتعاد". تعزو التقارير مصدر أو سبب هذه الجائحة هو الاتصال بنوع من الخفافيش البرية، هذا الاتصال كلّف وما زال يكلّف البشر الكثير، حيث أن أقل وأهم كلفة يمكن أن يتكبدها الناس الابتعاد عن بعضهم البعض. فرّب اقتراب أعقبه خروج للأمور إلى مسار لا تحمد عقباه، هذا بعكس ما تقوله العبارة الشهيرة "إن البعد نار والقرب جنة" القرب تحول في زمن كوفيد 19 إلى هلاك محقق، لذا لا منجاة إلا في البعد، حيث يغدو الشوق إلى الحياة الخالية من المهالك هوغاية ما نتمنى.

يغدو البحث عن واحة مستقرة وآمنة في خضم الفوضى التي صنعها كوفيد 19 أمنية بعيدة التحقيق إلى حد ما، كيف لك أن تخلق من مكان ما منطقة استقرار وطمأنينة في ظل الفوضى العارمة المتأتية ليس فقط من الأخبار الموثقة عن الجائحة بل الأطنان الهائلة من الرسائل الحاملة للمعلومات المغلوطة التي تقذفنا بها تطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي. زيادة على ذلك نجد أن بعض الأحاديث والتحليلات التي تقفز على اللحظة الراهنة إلى العواقب الاقتصادية المتوقع حدوثها عقب انجلاء الغمة، وهذا ما يضاعف من قتامة الموقف ويضع المزيد من الغلالات الحاجبة للرؤية. فما المهرب من كل هذا حين تكون قد جربت كل شيء لقتل الملل. يتملك ذلك الإحساس الذي يسكن من ينتظر وصول عدو قاتل لا تمتلك البشرية له من دافع سوى بالبقاء بعيدًا عن خط سيره وتقدمه، من يتصور أنك تستطيع النجاة من العدو بالاختباء عنه مع الإبقاء على يديك مغسولتين جيدا بالماء والصابون مع عدم ترك يديك تقتربان من وجهك. القرب والبعد كم أنتما قاسيان!! لا بد لنا من يدين نظيفتين فقط كي نقاوم الوحش الكاسر.

ولأجل الابتعاد بالنفس عن معاطن الهلاك لا بد من قرب حميد من الأسرة ومن الذات. وفي البيت يزاد قربنا من المكتبة أكثر فأكثر، الفوضى التي يثيرها كوفيد 19 أجد في المكتبة ما يساعدني على تجاوزها، وجدت الوقت الكافي لإعادة النظر في ترتيب مكتبتي وإعادة اكتشاف ما أملكه من كتب وأوراق تضم بحوثا ودراسات ونصوص وغير ذلك، ولكنني لم أقرأ الكثير من ذلك. وليس من وقت أكثر ملاءمة لفعل كل ذلك من هذا الوقت. ساعدتني عملية الترتيب على تركيز القراءات وتوجيهه بصورة لم أعتد عليها من قبل، فمثلا انتبهت إلى أن لدي عدة أعمال لكاتب واحد ولكنني لم أقرأها جميعا، لذا وجدت من المناسب التركيز على أعمال كاتب واحد، ثم الانتقال إلى كاتب آخر، كذلك هناك كتب تعالج موضوعا واحدا ولكن من زوايا متعددة وعلى سبيل التمثيل هناك موضوع الغرابة والدراسات التداولية والدراسات المتعلقة بالحجاج وغيرها من مواضيع. وهكذا مضت عملية الترتيب إن على صعيد القراءة أو على صعيد تنظيم الكتب على الأرفف. ثم أن العدد الكبير من المجلات وقصاصات الجرائد والدراسات والمقالات الورقية وجدت طريقها إلى الأرشفة والتظيم بحيث انتظمت في ملفات بحسب مواضيعها وأسماء كتابها. وفي المكتبة أيضا وجدت الفرصة للعودة إلى القصاصات الورقية المختلفة لنصوص ومقالات وملاحظات ويوميات، وتم فرزها وتصنيفها وترتيبها في ملفات بحيث تسهل العودة إليها حين الرغبة في رقنها لإخراجها في كتاب.