غير مصنف

عن علاقة كورونا بتكاثر السكان وشح الموارد!

18 أبريل 2020
18 أبريل 2020

د. عبدالعاطي محمد -

مثلما أوقف وباء كورونا عجلة الحياة في العالم أجمع، أعاد الحياة مجددا لنظرية قديمة تتعلق بدور الأوبئة في إعادة التوازن بين الطبيعة والسكان، وهى نظرية الباحث البريطاني توماس مالتوس الذي عاش بين عامي 1766 و1834 والمعروفة بالتكاثر السكاني.

ومع أن العلماء تجاوزوا هذه النظرية منذ زمن بعيد وخصوصا ما يتعلق منها بعالم الاقتصاد، إلا أن ظروف الوباء الجديد وما أحدثه من هلع بين البشر سمحت للكثيرين بالعودة إلى هذه النظرية لفهم ما جرى ولاستلهام العبر والدروس.

وفى زمن بعيد مضى لم يتسبب الحديث عن هذه النظرية في إثارة الجدل أو الخلاف، بل كان موضع تقدير واهتمام شديد من جانب العلماء باختلاف تخصصاتهم والسياسيين أيضا، لأنه أوجد تفسيرا لمظاهر الفقر والبؤس بين الناس في العصر الذي عاش فيه مالتوس (القرن التاسع عشر)، ومن ثم التمكن من وضع السياسات والأفكار التي تمنع ذلك وتدفع إلى التقدم. وآنذاك تلقف المعنيون بالاقتصاد هذه النظرية للاستفادة منها، وذلك بوضع مفهوم السكان ضمن العناصر المهمة المحددة لتطور الاقتصاد إلى الأمام أو إلى الخلف، بجانب الموارد الطبيعية والتوزيع والتداول.

النظرية باختصار غير مخل تربط بين الغذاء الذي مصدره الطبيعة والسكان، وتقول إن كلاهما يزداد ولكن بمعدلات مختلفة، فبينما يزداد السكان بمتوالية هندسية يزداد الغذاء بمتوالية عددية، وفى نقطة ما يختل التوازن بينهما، بما يعنى أن السكان يجدون أنفسهم غير قادرين على الحياة حيث لا يتوافر الغذاء الكافي، أي أن الإنتاج الزراعي لا يستطيع مواكبة الزيادة السكانية، وهنا يتدخل الوباء الذي هو من صنع الطبيعة أيضا لكى يوقف التدفق السكاني ويبقى على العدد المناسب لما هو متوافر من المواد الغذائية!! ثم أضيف إلى الوباء وسائل أخرى لتصحيح المعادلة بين الطبيعة والبشر هي الحروب والمجاعات!

وقد سمحت هذه النظرية بأن يصبح السكان رقما في غاية الأهمية عند كل صناع القرار في العصر الحديث وهم يخططون لبلادهم لتوفير حياة أفضل ومستقرة. ودون الدخول في تفاصيل كثيرة أتاحت هذه النظرية البناء على فرضياتها ليس فقط لتطوير الاقتصاد وإنما لتحديد التوجهات السياسية التي حكمت صعود وهبوط إمبراطوريات، والأخطر شن الحروب أو اللجوء إلى السلام، ووصل الحال بالبعض مفكرين أو سياسيين إلى الاهتمام بتحسين السلالات البشرية في ضوء علاقة الطبيعة (الموارد) بزيادة أو نقص العامل السكاني، وذلك من خلال التغيير الذي تحدثه الحروب والمجاعات والأوبئة في التركيبة السكانية حيث يتبقى الأفضل من السلالة ويختفى الأضعف منها!.

وأيا كان الاتفاق أو الاختلاف مع هذه النظرية، فإن تناولها المعاصر للوضع الراهن يتسم بالإثارة والولع بالتفاعل على صفحات التواصل الاجتماعي والارتياح للإجابات المتعجلة لكسب الشعبوية بوصفها الورقة الرابحة في الحوار العام. كما تتداخل فيه اعتبارات الخير والشر. والمعلوم أن هذه النظرية كانت قد واجهت انتقادات في السنوات التي تلت انتشارها، حتى أنه بمرور الوقت تم صرف النظر عن افتراضاتها وتوقعاتها، خصوصا في ظل التطور الكبير الذي عاشته البشرية على مدى قرون مضت في مختلف المجالات العلمية، وكذلك فيما يتعلق بالنظريات السياسية الحاكمة للحصول على القوة والنفوذ والهيمنة على العالم. ولكن جائحة كورونا أعادت الترويج مجددا لهذه النظرية، ربما لوقع الصدمة الشديد الذي أصاب الجميع وشل مختلف صور الحياة وجعل العالم على اتساعه مدنا للأشباح.

فالإنسان وبدون أي تمييز كان، وليس الحكومات أو الدول. هو محور الأزمة التي تسببت عن هذه الجائحة، وهو يواجه كائنا مجهولا (الفيروس) وليس طرفا مثله. ونتيجة لأن تشخيصا كهذا يجعل المشهد غامضا ومخيفا في نفس الوقت، جاء الاهتمام من جانب كثير من المحللين باللجوء إلى هذه النظرية القديمة للغاية حيث هي الأقرب ظاهريا والأسهل في بناء تصور ما لتفسير الأزمة (وباء ينتشر سريعا للقضاء على السكان).

ومن ناحية أخرى لاقت النظرية ترحيبا كبيرا من جانب من يؤمنون دائما بمفهوم المؤامرة، فبالنسبة لهم نحن أمام وباء متوحش غير مسبوق يستهدف القضاء على البشر، ولكن ليس كلهم بنفس الدرجة حيث تلاحظ أنه أصاب سلالات بعينها بدرجات أكبر من غيرها وكأنه يختار بعناية ضحاياه!، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن هناك جهة ما وراؤه لتغيير التركيبة السكانية بما يسمح لسلالة أو جنس ما أن يهيمن على مستقبل البشرية بينما يريد التخلص من أجناس أو حتى سلالات بعينها من هذه الأجناس، وكل ذلك لخدمة طرف ما!.

إذا وضعنا جانبا اعتبارات الإثارة والولع بالجدل العام، فإن حجج الاستعانة بهذه النظرية لتفسير الجائحة الجديدة تتهاوى الواحدة بعد الأخرى من مجرد مناقشة المعطيات الراهنة التي يلجأ إليها المولعون بإسقاط الماضي تعسفيا على الحاضر دون حساب تغير الزمان والمكان. فمن يتحدثون عن المؤامرة لا يشيرون بالدلائل المادية إلى وقوعها، ولا من حيث تحديد الطرف الذي يديرها، فقط يعتبرونها استنتاج ذهني، ومن ثم فإنها تقف عند مستوى الرأي لا عند مستوى الجزم بالحقيقة. ولا يتفقون على طرف بعينة يرونه مصدر الأزمة. ويتبع ذلك أنه حتى قبيل الإعلان عن وقوع الجائحة لم يثر أحد القضية برمتها طوال السنوات الماضية منذ وباء الإنفلونزا الأسبانية 1918 وحتى الجائحة الراهنة مرورا بإنفلونزا الخنازير وسارس والإيبولا، فهل كان هذا وذاك مؤامرة على البشرية بغرض تحسين سلالات بعينها؟!

على صعيد آخر لقد اجتاحت كورونا (كوفيد-19) أقوى الدول التي تنعم بالغذاء ووسائل الرعاية الصحية المتقدمة، ومن ثم لا يمكن القول إنها كانت تعانى من فجوة واسعة بين عدد السكان والمواد الغذائية حتى تصدق عليها نظرية مالتوس الشهيرة. ومن الصحيح أن الولايات المتحدة والصين تبادلا الاتهامات بأن أحدهما مسؤول عن إيجاد الفيروس واستخدامه ضد الآخر، وكذلك بعدم التعاون في تبادل المعلومات الصحيحة عن انتشاره، وزادت واشنطن بأن اتهمت منظمة الصحة العالمية بأنها ضللتها لأنها كانت متواطئة مع بكين بحسب تقديرها. ولكن كل ذلك كان من باب الخلاف السياسي بين الدولتين الكبيرتين. ولم تتحدث رسميا دول كبرى أخرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا عن موضوع المؤامرة. والملفت أن كلا من واشنطن وبكين أبديا مع مضى الوقت التعاون رسميا مع بعضهما في المواجهة العالمية للفيروس. يضاف إلى ما سبق أن مدى انتشار الأوبئة في الماضي أقل بكثير عن انتشاره في العصر الحديث أخذا في الاعتبار وجود الوسائل أو العوامل التي تساعد في هذا الأمر. ففي ظل انفتاح دول العالم الآن على بعضها البعض وحركة التنقل السريعة والضخمة للأفراد عبر الحدود لا يصح مقارنتها بمحدودية ذلك في الماضي وقت أن صاغ مالتوس نظريته. ومن جهة أخرى فإن العالم منذ الحرب العالمية الثانية عرف حروبا إقليمية ومحلية عديدة، وكذلك مجاعات في دول ومناطق معينة لم تؤدي إلى تغيير في سلالات أو تركيبات سكانية إلى الأفضل. نعم راح ضحيتها الآلاف من البشر ولكن لم يتحسن حالها الحضاري، بل حدث العكس.

لا أحد ينكر أن هناك اعتداء صارخ على الطبيعة بسبب الممارسات الخاطئة للبشر ويتشارك الجميع المسؤولية في المشكلات المترتبة على تغير المناخ وتضر بالصحة العامة، ومن المؤكد أن هذا أحدث خللا في العلاقة بين السكان والطبيعة. ومن الصحيح أن هناك من حذروا منذ سنوات الحكومات الغربية من أخطار متوقعة من فيروسات جديدة، إلا أن أقصى ما كان متوقعا من مخاطر هو أن تقع كوارث على شاكلة كورونا بين وقت وآخر، ولكن تضرب دولة ما أو عدة دول متلاصقة وبشكل محدود بما يجعل بقية العالم قادرا على مساعدتها والتخلص من الأزمة سريعا، لا أن تضرب العالم كله (إلا بضعة دول بأصابع اليد) وبشراسة ويقف أمامها عاجزا مثلما فعل كورونا المستجد.

سيحتاج العالم وقتا لفك شيفرة الجائحة التي قلبت أوضاعه رأسا على عقب، ولكن ليس باللجوء إلى نظرية مالتوس (تكاثر السكان) كما ذهب البعض، ولا بنظرية المؤامرة كما ذهب آخرون، وإنما بالنظر إلى سبل مواجهة الأوبئة في ظل التغيرات الكبرى التي عرفتها البشرية مع الثورة الصناعية الرابعة. فقد وضح أن إدارة أزمة من هذا النوع افتقدت إلى التنسيق والتضامن الدولي المطلوب وإلى شح المعلومات مما جعل المواجهة تأتي متأخرة وتتركز في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما اتضح أن أسلوب الحياة يلعب دورا مهما في كبح الأوبئة أو الاستسلام لها. هناك أساليب للحياة عند بعض الشعوب يتعين التخلي عنها فيما يتعلق بالغذاء والعيش بجانب الحيوانات واللقاءات الجماعية للناس، ومع أن هذا يدخل في نطاق الحريات الأساسية التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر 1948، ومن ثم من المفترض عدم التدخل فيها، إلا أن المخاطر الصحية التي ممكن أن تترتب عليها في غيبة الوعي المجتمعي تفرض المراجعة بما يضمن سلامة الصحة العامة. ومن المؤكد أن التغيير في نمط إدارة أزمة من هذا النوع ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى جهد حكومي وشعبي ونخبوي طويل الأمد، ولكن الثمن الباهظ الذي دفعته البشرية في مقاومة الجائحة الجديدة يفرض القيام بهذا التغيير، لأن الأوبئة لن تتوقف طالما هناك حياة على الكوكب.