maxresdefault
maxresdefault
المنوعات

في ذكرى رحيل ماركيز .. هل تلهمنا أعماله مقاومة عزلة كورونا؟

17 أبريل 2020
17 أبريل 2020

عماد البليك

يوافق السابع عشر من أبريل الذكرى السادسة لرحيل عبقري الرواية العالمية ورائد الواقعية السحرية الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز (نوبل 1982م) الذي رحل عن عالمنا، في 14 من هذا الشهر عام 2014م عن 87 عامًا بمدينة مكسيكو سيتي.

تأتي ذكرى رحيله هذه المرة وسط أجواء الجائحة التي تلقي بوبالها على كل دول العالم، فيروس كورونا، الذي أقلق الشعوب والدول وغيّر من نواميس الرؤية في كثير من القيم الإنسانية والتقاليد الاجتماعية والاقتصاد والثقافة ومفهوم الترفيه، بل إن أثره سينعكس على المستقبل في تغيير حتى أنظمة التخييل في الفنون والأدب.

                                      الحب في زمن الكوليرا[/caption]

 

بين فكرتين

مع استحضار صورة ماركيز صاحب الرواية العظيمة (مائة عام من العزلة) وأختها (الحب في زمن الكوليرا)، لكأنّ الأسئلة تنفتح بين عالمين، أو فكرتين..

الأولى هي العزلة التي يعيشها أكثر من نصف سكان العالم اليوم، مع (كوفيد 19)، والثانية هي الكوليرا التي تمثل المجاز المقابل لفكرة هذا الوباء اللعين.

ولا بد من أن ثمة سؤالا سوف يُطرح هنا.. بأي تصور كان سوف يرى ماركيز هذه الأزمة العالمية، وهو الذي كتب وشخّص بقوة هذه المفاهيم من عزلة لوباء إلى غيرها من القيم والمعاني التي عمل على تفكيكها في أعمال الإبداعية التي حملت استعارات رائعة لكيفية فهم العالم الذي نعيش فيه، الذي طالما كانت سمته هي الغموض والغرابة، في مقابل بحث الإنسان عن الألفة والاتزان والسكون.

ماركيز الذي كان يحاول أن يتفرد من خياله بأن يعيد تشكيل حتى المشاهد التي تطابق لحظات واقعية تحدث أثناء كتابة نص معين، لربما لو أنه عاش جائحة كورونا، لكان قد كتب عنها بطريقته الخاصة التي سوف تكون حتمًا مختلفة عن الكوليرا التي تمثل وبال زمانها، إذ لم يكن ممكنًا أخذ النموذج من أمراض مستعصية كالجدري والكوليرا والأنفلونزا الإسبانية.

طابع العزلة عند ماركيز ربما بدأ مبكرًا عنده ففي روايته صغيرة الحجم التي كتبها في بداياته (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، سوف نجد هذا النوع من الانعزال الذي يعيشه هذا العسكري المتقاعد الذي سوف يتخلى عنه الناس، ويصبح أسير وحدته وحشته في الوجود في انتظار مجرد رسالة بريد.

كبح العزلة بالعزلة

يقال إن كل كاتب له موضوع معين يظل يكتبه طوال حياته، وقد لا يكون الأمر بهذه المباشرة، غير أن ما وراء ذلك يعني أن الكاتب له إرادة تبحث عن معنى العالم، الذي لا يتحقق إلا عبر الانتماء لفكرة أصيلة تحرره من الانقياد لشروط العالم التقليدي.

فالفن والأدب والروايات هي محاولة مستمرة لابتكار العوالم الموازية، إنها ذات طاقة كبيرة على توليد الانعزال ضد العزلة نفسها في هذا العالم المغلف بحصاره الدرامي، وفي طياتها تحمل هذه الفنون والآداب كافة الشروط لتمثيل هذا المغزى العميق الذي هو سمة أناس بعينهم، وثمة دراسات تربط بين مفهومي العزلة والإبداع.

وإذا كان الوباء يتبدى كداعٍ للعزلة، كما في التجربة الشهرية لنيوتن الذي خرج لنا بالقوانين غيّرت معالم الحضارة الإنسانية من الناحية العلموية، أثناء عزلته الإجبارية في الريف عندما انتشر وباء الطاعون في لندن عام 1665م. فإن التجارب الأليمة بشكل عام والمعاناة تظل مقرونة في المخاض الإنساني عامة بالإطار الإبداعي أو توليد الفكر الجديد، فميلان كونديرا يرى مثلًا أن تطور الفنون والأدب في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين بالتحديد في فترة الستينيات اقترن بإرث تداعى عن الحرب العالمية الثانية.

الحب والاحتمال

في رواية (الحب في زمن الكوليرا)، رائعة ماركيز التي نشرت لأول مرة باللغة الإسبانية في عام 1985م، وهذا يشير إلى مسألة مهمة أن الإبداع لا يرتبط بالجوائز، فهنا يقدم لنا جارسيا هذا العمل الجبار برغم أنه كان قد نال قبلها نوبل في الأدب في 1982م، لأن شرطية الإبداع الحقيقي هي الاقتران بالمعنى والقيم الكبيرة التي تحمل عمق التجربة الإنسانية والإبداعية.

يشار إلى أن الرواية قد حولت لفيلم عام 2007 برغم أن مواقف ماركيز السابقة كانت تؤكد على رفض تحويل أي من أعماله إلى أفلام سينمائية، باعتبار أن ذلك يخصم من التخييل المتعلق بالقراءة المباشرة للنصوص.

الرواية والكثيرون يدركون ذلك، هي في أبسط صورها قصة حب تمتد محمولة إلى عقود طويلة إلى ما بعد بلوغ أعتى العمر، ليكون لهذا الشغف أن يغمر بالاحتياج بعد مرور السنين الطويلة.

لكن ما وراء ذلك فنحن أمام صور بانورامية هائلة لمجتمع عميق يتغير ومشاهد للحياة الإنسانية في تفاصيلها الكثيرة، حيث يرصد ماركيز بروحه الشفافة ذلك العالم الذي ينطوي عليه الحب والشقاء معًا في قارب واحد، تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبدى من خلال هذه الرواية ومن خلال جائحة الكوليرا التي تشكل ثيمة مركزية للنص.

لقد كان العاشقان في انتظار طويل، استمر لنصف قرن، تمضي الحبيبة مع زوجها الذي لا يمثل حبها بالطبع، في حين يبقى هو - الحبيب - في الانتظار، وبعد وفاة الزوج تكون اللحظة المناسبة للبوح الكبير في تلك السن المتقدمة. برغم الممانعة الأولى وربما النسيان إلا أن عاطفة الشباب تطلُّ مجددًا لتؤكد أن الحب لا يموت، إذ سوف يشتعل بناره الوقادة من جديد، ويمضي الحبيبان العجوزان قي رحلة نهرية معًا، عسى أنه من الممكن استرجاع الأمس والذكريات.

             من أعمال ماركيز[/caption]

العزلة الأبدية

لكن يبدو أن المنفى والعزلة ستكون أبدية، إذ سوف يرفع القبطان العلم الأصفر الذي يشير إلى الإصابات بالكوليرا في الباخرة، ليبقى الصفاء البعيد والروح المتوثبة للحب لا غير، حيث يكون هذا الوله والحب هو القادر على إنقاذ النفوس وسط أقسى الظروف وأحرج المواقف.

ويبقى الأمل دائما في التقدم في معركة الحياة، بالأمل والحب والنضال، فـ(الانسانية كالجيوش في المعركة، تقدُّمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها)، كما يأتي في أقوال ماركيز في ذلك العمل الكبير، ما يؤكد على الانتصار ضد أي مرض أو جائحة أو عدو يتطلب التضامن.

في ذكرى ماركيز، يبدو لنا الواقع السحري أقرب للحقيقة، في حين أن الواقع المجرد الذي نعيشه اليوم مع كورونا يبدو معقدًا جدًا لا تصوره رواية، أعقد من السحر نفسه، لربما لو كتب أحدهم بهذه الطريقة غاية التعقيد لقيل إنه فارق الخيال.