أفكار وآراء

في أدوار «المثقف التقني»

15 أبريل 2020
15 أبريل 2020

محمد جميل أحمد -

ثمة اليوم، مع المتغيرات التي أحدثتها الثورة الرقمية والعولمة، اتجاه يبشر بفكرة (المثقف التقني) لا سيما في البلدان التي طورت استخدامات تقنية في بنيتها وجهازها ونمط حياتها العام، كبلدان الخليج.

تبشر فكرة (المثقف التقني) باعتبارها توصيفًا عامًا لمن يتعامل مع التقنيات التواصلية الحديثة والاهتمام بالاقتصاد، إلى جانب تصور العالم كما لو أنه عالم واحد منخرط في شبكات التكنولوجيا التواصلية، خصوصًا عبر برامج تطوير الذات وإدارة المشروعات الريادية الصغيرة؛ تبشر تلك الفكرة باستيهامات مضللة من واقع تعاطٍ جزئي مع العالم لتتصور، وفق ذلك التعاطي: أن العالم في حقيقته عالم واحد!، وفي سياق كهذا تبشر الفكرة، أيضًا، بذوبان الحواجز والثنائيات التي حكمت عالم القرن العشرين، كثنائيات: شرق وغرب، وغيرها من الثنائيات.

ينبغي القول، أن رهانات فكرة (المثقف التقني) التي ترى في إدارة الاقتصاد والتقنية خلاصًا من التخلف، هي رهانات غير دقيقة، ليس لأن ما تراهن عليه من إدارة للاقتصاد والتقنية لا يتصل بأهمية، ولكن لأن السبيل إلى الإقلاع من التخلف يكمن في الأساس في حرية الفكر كشرط شارط للبحث في قضايا التخلف، ما دام التخلف اليوم هو سمة عامة لبلدان العالم الثالث.

فنحن بالفكر لا نقف، فقط، على الأسرار المتصلة بسوية تدبير الاجتماع السياسي وسياقاته المتعلقة بالقوانين الحاكمة له، بل كذلك نقف على ما يجعلنا قادرين على الإمساك بالطبيعة التي يتيسر لنا عبرها صناعة مصيرنا.

هكذا، أمام استحقاقات إعمال الفكر، سنجد أنفسنا حيال قضايا ومفاهيم من شاكلة تتصل، بإدارة الاختلاف، وكيفية تدبير علاقات الجماعة الوطنية، وأفكار مثل فكرة الحوار والحرية، ما يعني أن قيمة التفكير هنا تشتبك مع تلك المفاهيم لتنتج من خلال التفاعل معها، تصورات ومبادئ تفسيرية للعلاقات البينية الحاكمة لوعينا وسلوكنا، ما دمنا في مجتمع لا يمكن تعريفه كمجتمع لمجرد أنه مجموع مكون لأولئك الأفراد، ولكن، كذلك، لطبيعة العلاقات التي تنظم الأفراد في ذلك المجتمع.

وسنلاحظ، هنا أن دور (المثقف التقني) لا يضطلع بالتفكير في مثل هذه القضايا المتصلة بتدبير الاجتماع السياسي والقوانين الحاكمة له، وإنما يتجاوزها كما لو أنها ليست موضعًا للتفكير، وكما لو أن في التقنية بذاتها حلولًا سحرية لتلك القضايا. بما يمكننا من القول، أيضا، أن (المثقف التقني)، إذ يشتغل على دوره بوصفه مهمة عامة ومتناسخة هو أكثر شبها بمهمة الترس في العجلة لأن في تغييب الدور حضور عام بلا هوية تقريبا.

بطبيعة الحال، عند التحقيق في مفهوم (المثقف التقني) سنجد أن المفهوم أكثر قربًا وأليق بالمتخصص في التقنية أو الممارس للتقنية بروح تبشيرية نابعة من الانبهار بظاهرة التواصل التقني العالمي التي وفرتها ثورة المعلوماتية والاتصال.

وفي التحقيق، كذلك، سيكون من المستحيل تقريبًا، أن يمنح التخصص التقني صاحبه سمة المثقف من حيث تخصصه التقني، فحسب، ما يعني أن (الإيديولوجيا التقنية)، إذا جاز التعبير، بالنسبة لـ(المثقف التقني) في تبشيره بها نابعة من زخم العلاقات البينية لوسائل التقنية التي وفرت للعالم تواصلا في المعلوماتية بدا معه أن الجميع واحد وأن العالم قرية صغيرة.

المثقفون التقنيون عبر مروحة واسعة من التخصصات التقنية لن يتوفروا، بحسب طبيعة تفكيرهم النسقي، على ما يجعلهم يفكرون خارج الصندوق، أو يحفزهم على طرح الأسئلة حول أوضاع الاجتماع السياسي التي يتصورها كثيرون أنها بديهيات فيما هي ليست كذلك!

بطبيعة الحال، لا يعني ذلك أن كمًا موازيًا سيقابل أعداد (المثقفين التقنيين) بين من يشتغلون، عبر الفكر، على قضايا الاجتماع السياسي واستحقاقاتها المتصلة بطرح أسئلة في: الحوار والهوية والمعرفة والحرية والاختلاف والتعايش، ولكن سيكون من المهم وجود طبقة في المجتمع تكترث لنقل وإشاعة تلك القضايا الآنفة الذكر عبر تلخيص مقولات المثقفين ومنتجي الأفكار في المجتمعات الحية.

اليوم، مع الأوضاع الطارئة التي يفرضها فيروس كورونا على العالم، سيكون في ذلك ما هو محفز على التأمل في قضايا بدت لكثيرين ناجزةً ونهائية فيما هي ليست كذلك!

لقد جعل هذا الفيروس عالمنا أكثر ارتباكا في النظر إلى ما ظنه يوما من الأيام إنجازًا طبيعيًا لمنظومة تفكير، وأنماط إنتاج وصيغ اجتماع سياسي، أصبحت كثير من المجلات المتخصصة في الغرب تؤكد على أن تلك المنظومة لن تكون كما كانت ما قبل كورونا.

بين التفكير داخل المجتمع، والتفكير في المجتمع، تتباين أسئلة الطرح ومحتوى النظر وتختلف دوائر التفكير، ففي ذينك النمطين، أي نمط التقنية النسقي الذي ينعكس في مقاربات (المثقف التقني) ونمط الفكر النظري الذي يطرح الأسئلة، لا تقترح الحاجة إليهما جميعًا، تناقضًا بقدر ما تقترح توازيًا.

ومما لا شك فيه، أن التبشير أو الظن بأن في مطلق الأخذ بمعايير التقنية وإشاعة الحاجة إليها كحاجة خلاصية لمشكلاتنا فقط من قبل (مثقفين تقنيين)، هو جزء من ذهولنا عن ضرورات ظننا أنها غير موجودة، فقط، لمجرد أننا نريد أن نقفز على استحقاقات لا يمكن القفز عليها أبدًا!