أفكار وآراء

التحفيز وحساب المسافات

11 أبريل 2020
11 أبريل 2020

مصباح قطب -

«إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى».

ليس هنالك أفضل من العبرة الماثلة في قول الرسول الكريم هذا، نهجا، حين تخطط أي دولة للتعامل مع توابع وتداعيات جائحة كورونا وطنيا وإقليميا وعالميا، وحين تنفذ خططا إنقاذية بمبالغ ضخمة وتنفق منها الكثير في وقت قصير، بغية إرضاء الرأي العام وتجنبا لأي اتهام بالتقصير. تصرفات رأينا منها الكثير في دول العالم وكلها تمت، بروح «الصدمة الأولى» .. فقد يندفع صانع القرار المالي أو النقدي أو الاقتصادي أو الاجتماعي عموما،في هذا الاتجاه أو ذاك من أجل سرعة التصدي للتداعيات وكي لا يقال ماذا فعلت الحكومة؟ و يستخدم أدوات ومتطلبات صحيحة، لكن النتيجة يمكن أن تكون غير مرضية لأنها تمت قبل أوانها أو بأسلوب ليس مناسبا. وفى المحصلة نجد أن توزيع الأحمال والموارد على فترة زمنية أبعد كان غير مأخوذ في الحسبان وبمعنى آخر أن تقديرات طول الطريق كانت غير سليمة. وبالتالي تم استنفاد معظم الموارد في جزء قصير منه فما العمل مع بقيته؟. في الأمر شيء يشبه ذلك الذي قاله «نورمان إنجيل» في كتابه الصادر عام ١٩٠٩ بعنوان «الوهم الكبير» وهو: (حسبما جاء في كتاب إعادة النظر في النظام الدولي الجديد.عالم المعرفة .العدد ٤٨٠ ) «أن الوهم يكمن في الاعتقاد أن الحرب تحقق ما يصبو إليه المحارب، أو أن الفوز في الحرب يعود بالنفع على الفائز». ولذلك يجب إعادة تقييم كل حزم الإنقاذ التي تقررت في مختلف الدول لمواجهة الآثار القاسية لكورونا على اقتصاد دولي كان مهيئا بالأصل للدخول في نوع من الركود» وعلى كل اقتصاد محلي على حدة. هل ستصمد لو طال أمد الأزمة وحيث لا يمكن الجزم بنهايتها الوشيكة أو حتى القريبة ؟ إلى أي حد تنعكس على عجز الموازنة والاحتياطات والتضخم وسعر الصرف والديون في الراحلين القصير والمتوسط؟ والأهم هل تركت هامشا للمرونة والحركة في الأجل الأبعد... هل أبقت على مخزون من الأدوات والموارد يمكن اللجوء إليه لاحقا؟ ما حال الاحتياطيات الغذائية والعلاجية ومدى قدرتها على الصمود؟ قبل أن نواصل أشير إلى أن ما نبه إلى ذلك بقوة هو حوار إلكتروني جرى عبر منصة «زووم دوت كوم» بين الدكتور محمود محيي الدين من موقعه في أمريكا كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون تمويل التنمية، وبين رجال أعمال وخبراء وتنفيذيين وصحفيين بمصر، بترتيب من المركز المصري للدراسات الاقتصادية مساء السبت الماضي. تطرق المحاضر ومن ناقشوه إلى قضايا مهمة للغاية فيما يتعلق بما بعد كورونا أود أن أعرض أهمها لما يمكن أن يكون فيها من فائدة لصانع القرار في دولنا العربية. ففضلا عن الدعوة للعمل بنفس طويل وعدم استخدام كل المتاح من أدوات السياسة المالية والنقدية مرة واحدة، حتى لا تقف تلك الأطراف عاجزة في مرحلة لاحقة، إذا ما طال أمد الأحداث أو تسارعت وتيرة تأثيراتها السلبية وزاد عمقها، كانت هناك جوانب أخرى لمعالجة ما قبل الآن وما بعد الأزمة. ولعل فيما قاله الدكتور محيي الدين ما يجمل التوقف عنده وهو: «تمنى الأفضل لكن اعمل حسابك لأسوأ السيناريوهات المحتملة». يجب أولا التوقف عند مفهوم ما بعد الأزمة هذا. ماذا يعني؟. أي إطار زمني يحكمه؟هل عودة الاقتصاد الصيني مثلا إلى العمل بكامل قوته، أو هو والاقتصاد الأمريكي، هل ما بعد يعني أن تصبح كل الإصابات في كل دول العالم تنازلية؟ ألا يمكن أن تكون هناك أبعاد وليس بعدا واحدا، وحيث التعامل الفردي للدول غالب، وعليه يمكن أن تتعافى دول كل على حدة في وقت وتتأخر أخرى وثالثة وهكذا؟ هل يبدأ الـ (ما بعد) عند تعافي آخر مريض/‏مصاب في العالم؟ أم عند تعافي آخر دولة صحيا ومن ثم بدء التعافي الاقتصادي لها؟ هل يبدأ بانتهاء الأزمة التي أساسها صحي هذه المرة، في أكبر عدد من الدول؟ و ما معنى التعافي أيضا في ظل أن مفاهيم كثيرة ستتغير؟ وهكذا.

لم تتوسع المناقشة حول هذا الأمر بالشكل الذي عرضته ولكن تركت للتداعيات من عندي مساحة. شهدت المناقشات تحذيرات من ضخامة الأضرار التي ستلحق بقطاعات مثل السياحة وحيث إنها لن تكون أولوية إنفاقية في مرحلة ما بعد انتهاء إجراءات الحظر الجوي العالمية الطابع الحالية، لا عند الأفراد ولا عند الدول (التي يمكن أن تواصل تقييد السفر بأشكال غير ظاهرة حفاظا على أرصدتها من النقد) ... وأشير بشكل طريف أن التوسع في استخدام التكنولوجيا في قضاء الأعمال والمناقشات، على غرار ما تم في المحاضرة ذاتها، وهو نمط سيتكاثر بفعل عوامل موضوعية سابقة، ومحفزات أخرى من صنع الأزمة الكورونية، سيوثر بشدة مثلا على ما يسمى سياحة المؤتمرات فالأخير تنعقد الآن إلكترونيا، وقد تستمر هكذا في أغلبها، لكن وردت إشارة ذات مغزى وهي أن تعود قطاع السياحة في الدول العربية السياحية على الأزمات في العقود الأخيرة، سيمنحه قدرة أعلى على التعامل مع الأزمة الحالية، وقد ورد بخاطري بعد المحاضرة أن توسع العمل عن بعد يمكن في المقابل، أن يفيد في زيادة الحركة السياحية وعدد الليالي السياحية التي يمضيها السائح إذ يستطيع أن ينعم بالترفيه من جانب ويمارس عمله وهو في أي منتجع خارج بلده من جانب آخر. الدرس الذي انتهت إليه المناقشة هو وجوب النظر بعمق إلى التأثيرات على كل قطاع ومساهمته الحالية والمستقبلية في الناتج. القوى العاملة، الضرائب الخ وعدم الاكتفاء بالوقوف عند مؤشرات الاقتصاد الكلي وحدها. وبيقين لدى المتحدث والضيوف، قيل إن على الدول أن تدرك أن مزيدا من العجز في الموازنات العامة هو قدر لا فكاك منه، بيد أن المهارة هي في حشد اكبر قدر من الموارد الداخلية في المواجهة دون كثير رهان على أسواق المال الدولية، لأن الطلب على التمويل سواء من المنظمات الدولية أو أسواق المال سيتفاقم وستشتد فيه المزاحمات، وبالتأكيد أيضا سترتفع المديونية، والنصيحة هنا أن علاج الدين الداخلي هو في النهاية ورغم صعوبته ترك التضخم ليرتفع، بينما يحتاج الدين الخارجي إلى موارد دولارية لسداده قد لا تتاح بسهولة بسبب الآثار السلبية المعروفة على التصدير والاستثمار الأجنبي والواردات (التي سترتفع كلفة الكثير منها وتستنفد بالتالي مزيدا من النقد الأجنبي).

غير أن الحل بالتضخم يجب أن يحظى بحوار وتوافق شعبيين. سيزيد دور الدولة الاقتصادي بيقين أيضا وبلا أيديولوجية وخاصة في مجالات الرعاية الصحية الأولية والوقاية والنقل والتعليم والمواصلات والنظافة. ولن يكون هناك مجال للتوقف طويلا عند السؤال: هل يعود زمن الشمولية أو التأميم خاصة وأن الدول الكبرى تقوم بشيء شبيه؟ أقول لا مجال للتوقف لأن الجميع يكتشف الآن وكما قال الدكتور محمود نفسه أن هناك احتياجا لإعادة تعريف ما يسمى في الاقتصاد بالسلع العامة...حيث سيضاف إليها حتما الرعاية الأولية والوقاية الصحية حيث لا يمكن أن يقوم بهما سوى الدولة، وتوطين أنواع من التكنولوجيا، وكذا النظافة العامة والنقل الجيد والتعليم الجيد، وقد رأينا أن الأخير كاد يخرج بالكامل من السلع العامة في العقدين الماضيين وأن يتحول إلى «بزنس»، والآن يكتشف الجميع عدم صحة ذلك. من الموضوعات التي لم يتم الاتفاق على تصور نهائي لها ما يتعلق بمفهوم قيادة المنظومة العالمية في الفترة المقبلة وإذا كان هناك إجماع على أن الصين ودول شرق آسيا عموما ستكون أكثر قوة وتأثيرا وحضورا لكنّ آسيا ليست مسألة جغرافية فحسب وفيها تباينات سياسية اقتصادية اجتماعية واضحة، فالصين ليست كوريا والعكس كما أن آسيا الشرق لا تملك فكرة قائدة أو لم تقدم أي مفهوم مقبول أو حتى يصلح للمناقشة الدولية للقيادة، ولم يظهر منها استعداد أعلى لتحمل تبعاتها حتى الآن. سيبقى أن ما تقدمه آسيا بالأساس هو أهمية قوة التعبئة والتنظيم والتسلح بالتكنولوجيا وبناء قواعد بيانات ضخمة وقدرات تحليلية رفيعة لها باستخدام الذكاء الاصطناعي وهكذا. خلاصة القول أن مستوى الغموض بشأن ما هو مقبل ضخم جدا والتوقعات تتباين بشدة ليس فحسب فيما يختص المدى الزمني للخروج من الأزمة وكيفية ذلك ولكن أيضا فيما يتعلق بمستقبل البشرية نفسه وماذا ستفعل لو هاجمها وباء آخر وهي بهذا الانقسام أو عدم الاستعداد الذي كشفته الجائجة الحالية، وعلى كل ذلك فإن المهمة الأولى لأصحاب القرار الاقتصادي الاجتماعي هي تحديد أولويات لا تقبل الخلاف عليها وتركيز الإنفاق فيها وبشكل متدرج ولكنه محسوب. لقد لفت أحدهم إلى أن كل مراكز البحث مشغولة فقط بما سيقوم به الكبار ولا تقدم أي خريطة طريق للدول النامية وعليه فمصيرنا باجتهادنا وبيدنا. صحة الإنسان وطعامه وتعليمه في المقدمة، بلا جدال، إلا إذا كان هناك من له فهم آخر للأولويات.