333
333
المنوعات

دروس من القرآن بينما القنابل تنهمر على طهران

30 مارس 2020
30 مارس 2020

  • عن النعمة والنقمة والحروب

علي رضا دوستدار ترجمة: أحمد شافعي: أول مرة حفظت فيها سورة من القرآن، كانت السماء تمطر قنابل. لا بد أنني كنت في قرابة السادسة وكانت عائلتي تعيش في حي جيشا بشمالي وسط طهران الذي هاجمته طائرات صدام حسين الحربية مرة على الأقل، فأرغمت سكانه على الفرار خوفا من سقوط القنابل. أتذكر أني زرت مجمعًا سكنيًا وقد بات ركامًا على بعد عدة شوارع. قال جيران لنا: إن بين الضحايا أطفالا كانوا في عيد ميلاد صديق لهم، أطفالا في مثل سني تقريبا. في بيتنا، كنت وأمي وأبي وإخوتي الصغار ننام واضعين رؤوسنا تحت مائدة الطعام طلبًا لبعض الحماية إن وقع السقف قبل أن تسنح لنا فرصة لاتخاذ مأوى. فيما كانت القنابل تسقط والصواريخ المضادة للطيران تئز في السماء، كانت أمي تقربني منها وتغرز أظافرها في ذراعيَّ. ويختلط الحلم والواقع عجائن مفعمة بالحياة. ذات ليلة رأيت القنابل تسقط على حديقة حيوان طهران والدببة الشهباء تعوي وتنشب مخالبها في ألسنة النار المقتربة. في ليلة كتلك تلقيت حصة القرآن. كنا في زيارة صديق للأسرة، اختصاصي مسالك بولية طويل القامة يعيش وزوجته وابنهما الصغير في حي مجاور. كنت أعرفه بالعم علي، ولكن أمي وأبي كان يناديانه بعلي ماكسي، وهو اسم تدليل من أيام الجامعة يشير إلى طوله الفائق. لم يمض وقت على انتهائنا من العشاء، حتى أطفئت الأنوار وانطلقت أصوات الإنذار توقعًا لغارة. لملمت والدة علي ماكسي ـ وهي امرأة كبيرة في وشاح خفيف أبيض منقط ـ الأطفال المذعورين حولها. وعلمتنا أن نضع أيدينا اليمنى على قلوبنا ونردد سورة العصر: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). تمتمت بذلك ونبض قلبي يتسارع في راحة يدي. * بعد بضع سنوات، رأيت السماء تمطر أجسادا. كان ذلك في صيف عام 1988 وأنا وإخوتي مقيمون في جيشا، بينما أبي يتقدم بطلب تأشيرات كندية في دمشق (فلم يكن لكندا سفارة في طهران). عرض التلفزيون لقطات من الجو لأجساد عارية شاحبة تطفو على الماء في الخليج العربي. كانت بالعشرات، مبعثرة، مكسورة، مهملة. سقطت من السماء حينما أسقط صاروخ أمريكي الطائرة التي كانت تقلهم في رحلة الخطوط الجوية الإيرانية 655 المتجهة إلى دبي. كانت أمي قد اتصلت بعمتي من سوريا بينما يذاع الخبر. قالت: إنها حلمت بغرفة مليئة بأشلاء، جدرانها مبقعة بالدم. أرادت أن تطمئن أننا بخير. لم تكن تعرف بالأجساد العارية في المياه. الحقيقة أننا لم نكن بخير. كان أخي الأصغر - ذو السنوات الأربع في ذلك الوقت - يعاني حالة حادة من الإسهال والجفاف. كنا في زيارة لبستان عمتنا في قرية جبلية خارج طهران قبل أيام قليلة والتهم أخي الكثير من المشمش المسكر اللذيذ. أكل (ملء صندوق) كما قالت عمتي. ولما رجعنا إلى طهران فحصه طبيب صديق للعائلة ووصف له دواء. شحب أخي، وهزل، وأصابه الكسل، ولم يبق فيه من بدانته القديمة ومرحه أي شيء. خرجت إلى الشرفة، والشمس الحارة تسقط على شعري، محموم الوجه أمام الجدار، والدموع تنهمر ساخنة من عيني. كنت أحسب أن أخي سوف يموت. تلك الأجسام الشاحبة العارية في الخليج العربي. دعوت الله ألا يموت. * (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ)؟ هكذا يلفت القرآن الأنظار إلى السماء. انظروا إليها. تأملوا روعة كمالها. وتفهموا القوة الإلهية والحكمة من ورائها. في آية تلو آية، يصف القرآن السماء، بامتدادها الجليل، وما فيها من أشياء، تخفي بعضها وتظهر بعضها، وما تصبه على الأرض. السماء دعوة إلى التأمل: تأمل إبراهيم ما فيها من أجرام، في إشراقها وأفولها، قبل أن يدرك أن الله هو الواحد الذي لا يأفل. وهي موقع الانشقاق الكارثي في آخر الزمان، (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) وإذا البشر قاموا من الموت ليواجهوا حسابهم. وهي فوق ذلك كله منشأ الثواب والعقاب. من السماء أنزل الله الطعام لمريم، والمائدة ليسوع وحوارييه. ويرسل المطر بالحياة إلى الأرض الميتة فتنبت (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، ولكن الله يرسل من السماء نفسها العقاب على الآثمين كأولئك الذين أخطأوا من قوم نوح إذ انصبت عليهم الأمطار وأغرقتهم فلم تبق منهم أحدا، إلى أن ترددت كلمة الله (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي). تأملوا السماء من فوقكم، كذلك يدعونا الله المرة تلو المرة، وانظروا ما الذي ادخر لكم. * أقرأ منذ فترة عن معجزات حربية شهدها الجنود الإيرانيون في حرب ما بين عامي 1980 و1988 مع العراق. هناك المئات من هذه القصص، وربما الآلاف. أغلبها روايات لـ(عون خفي) من الله تجعل لمن يتلقاه اليد العليا في المواقف العصيبة. هناك حالة المتطوع الذي أسقط طائرة حربية عراقية بمدفع 57 ملليمترا سوفييتي مضاد للطائرات لم نكن قد قمنا بتشغيله قط. وهناك جندي المدفعية الذي صوَّب الله هدفه بعدما توضأ للصلاة، فجعله يقضي على مدفع عراقي مضاد للطائرات. وهناك الجنود الذين وهنت عزائمهم فملأهم الله عزيمة على القتال بعدما طلب أحدهم العون منه سبحانه. وعشرات من مقاتلين آخرين تلقوا مساعدات أنقذت حياتهم في لحظات اليأس: إمدادات تتجدد، ذخيرة تضاف، طعام للعطشى والمحاصرين، شفاء للمصابين. تحمل القصص جميعا درسا واضحا، لكن يبدو ملائما لبعض الكتّاب أن يعلنوه مباشرة: طهِّروا أنفسكم من أجل خالقكم، واطلبوا منه العون، وسيمنحه لكم ولو جعله مطرا ينهمر من السماء فوق رؤوسكم. لعل الأبقى في الذاكرة من أمثلة العون الإلهي هو الذي جاء على هيئة رمال تحملها الريح. في أبريل من عام 1980، أي بعد قرابة ستة أشهر من استيلاء الطلبة المسلمين اليساريين على السفارة الأمريكية في طهران واحتجازهم العاملين في السفارة، أصدر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أمرا بعملية سرية لاختراق إيران من أجل إنقاذ جسور. سمِّيت العملية بـ(مخلب العقاب)، وفشلت فشلا مدويا في صحراء تاباس بعد إخفاق معدات كثيرة عجزت عن العمل، وبعد اصطدام بين مروحية وطائرة نقل أسفر عن تحطم كلتيهما ومقتل ثمانية جنود أمريكيين. كان من أسباب تلك الكارثة عاصفة رملية. أولا، طارت واحدة من المروحيات الثماني المشاركة في المهمة وسط غبار كثيف فاضطرت إلى الرجوع. ثم حدث على أرض تاباس أن فقدت طائرتان الاتجاه واصطدمت إحداهما بالأخرى فتحطمتا واحدة تلو الأخرى بعد أن أثارتا غيمة رملية. أشار آية الله خوميني في ما بعد إلى دور الريح والرمل في الحدث قائلا إنهما من جند الله: (أكان الفاعل في ذلك اليوم أي شيء عدا اليد الخفية؟ أليس جديرا بمن لا يبالون بالعالم الروحي ولا يؤمنون إلا بما يرون أن يفيقوا؟ من الذي أسقط طائرات كارتر الراغبة في الذهاب إلى إيران؟ أنحن من أسقطها؟ الرمال هي التي أسقطتها. والرمال جند الله. والريح جند الله. فليتعلموا من تجاربهم). قارن خوميني العواصف الرملية التي اعترضت الجيش الأمريكي بالريح الصرصر العاتية التي أرسلها الله على قوم عاد عقابا لهم على التنكر لرسوله. يروي القرآن أن الريح ظلت تعصف بقوم عاد سبع ليال وثمانية أيام، فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية. لقد أثبتت تاباس أن الله لم يتخل عن سنته بإنزال العقاب معجزًا على الأرض. * من أحب الأدعية الإسلامية إلى نفسي ذلك التضرع الذي يثني على الملائكة حاملة المطر إلى الأرض. ذلك دعاء منسوب إلى علي ابن الحسين، ابن حفيد النبي محمد، المعروف بزين العابدين (أي زينة عباد الله) والمعروف بالساجد. يجله المسلمون الشيعة ويعدونه الإمام الرابع، وكان ضمن جماعة صغيرة من الرجال الذين نجوا من معركة كربلاء، وهي مواجهة ارتكب فيها الجيش الموالي للخليفة يزيد الأموي مجزرة على حفيد النبي الحسين بن علي (والد الساجد) ورفاق له رفضوا أن يدينوا بالولاء لذلك الحاكم الطاغية. يروى أن الساجد بعد كربلاء وقف وأخته زينب بنت علي وقفة حق في وجه سلطان يزيد وفي بلاطه في دمشق. ثم أطلق سراحه بعد ذلك وسمح له بالرجوع إلى المدينة حيث عاش حياته عابدا زاهدا معتزلا. يبدأ دعاء مديح الملائكة بتسمية حملة عرش الله: إسرافيل حامل الصور، الشاخص الذي ينتظر منك الإذن وحلول الأمر، وميكائيل ذو الجاه عندك، والمكان الرفيع من طاعتك، وجبريل الأمين على وحيك، المطاع في أهل سماواتك، المكين لديك، المقرب عندك. ويمضي الإمام فيعدِّد ملائكة آخرين مثنيا على دأبهم في العبادة بلا فتور، وتواضعهم أمام عظمة الله، ودأبهم في تمجيده، وحسرتهم حين ينظرون إلى أهل الجحيم. ثم ينتقل إلى فقرتي الأثيرة، المخصصة لحامل المطر: (خزان المطر وزواجر السحاب، والذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، وإذا سبحت به حفيفة السحـاب التمعت صواعق البروق. ومشيعي الثلج والبرد. والهابطين مع قطر المطر إذا نزل، والقوام على خزائن الرياح، و الموكلين بالجبال فلا تزول. والذين عرفتهم مثاقيل المياه، وكيل ما تحويه لواعج الأمطار وعوالجها). لا أستطيع أن أزحزح هذه الصورة للملائكة الهابطين بقطرات المطر، إنهم يهبطون بالماء من أجل الطعام والوفرة، وأيضا من أجل الطوفان والعقاب. أتخيل في بعض الأحيان الملائكة روبوتات إلهية، تروسا لا تفكر في آلة الكون الجميلة الجليلة. فهل من ملائكة مخصصة للقنابل؟ للأجساد العارية المتساقطة؟ * في ذهني صورة منذ الثامن من يناير من هذا العام، لفردة حذاء أحمر مثبتة فيه فراشة جلدية، هو على الأرجح لطفلة في أول عهدها بالمشي. هي على مجموعة صخور قرب بعض الرماد والعصي المتكسرة ومشبك شعر، وشيء شبيه بحلية فضية (أو لعله مشبك شعر آخر؟) على بعد بوصات قليلات. الحذاء متسخ قليلا بشيء من السخام والتراب. والفراشة المثبتة فيه ملطخة قليلا بالأسود. شريطه مربوط، وثلاثة أحجار لامعة صغيرة (أو لعلها من البلاستيك) في القفل المعدني. ما من قدم. كان ينبغي أن تكون القدم اليمنى. هل وقع الحذاء من حقيبة حينما انفجرت الطائرة؟ أكانت صاحبته على الطائرة؟ هل اختفى جسم الفتاة الصغيرة مثلما اختفت الثياب عن تلك الأجسام الشاحبة العارية في الماء؟ لا يملك ذهني إلا أن يحملق في الجندي العامل على المدفع المضاد للطائرات، الجندي الذي أسقط ذلك الحذاء وبقية ما أسقطه من رحلة الخطوط الجوية الأوكرانية الدولية رقم 752. ما الدعاء الذي تلاه قبل أن يطلق مقذوفتيه؟ تراه توضأ قبل ذلك؟ وهل صوَّب الله له هدفه؟ أتذكر دعاء الإمام الساجد وأحاول أن أتخيل الملاك الذي رافق الحذاء في طريق هبوطه من السماء. أتذكر ما يلي كلامه عن لواعج الأمطار وعوالجها: ورسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء، ومحبوب الرخاء، مكروه ما ينزل من البلاء، ومحبوب الرخاء. علي رضا دوستدار مدرِّس الأنثروبولوجيا والدين في جامعة شيكاغو. هو مؤلف كتاب (الميتافيزيقيات الإيرانية: استكشافات في العلوم والإسلام والغريب) [The Iranian Metaphysicals: Explorations in Science, Islam, and the Uncanny] وكتابه القادم عن الشيطان والثورة الإيرانية نشرت هذه المقالة في موقع ليتهب