فوزي
فوزي
أعمدة

رحلة رسّخت علاقة المؤمن بالمكان ووطّدت صلته بربه

25 مارس 2020
25 مارس 2020

فوزي بن يونس بن حديد

محبّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتفاءً برحلته عليه الصلاة والسلام الكريمة إلى بيت المقدس ثم إلى السماء، في زمن قياسي، يصرّ المسلمون في شتى أصقاع الأرض على الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وهي ذكرى ما زالت تشعّ في القلوب وتسيطر على العقول، وتستلهم منها الروح تلك العبر والدروس، الكثيرة والمتعددة، لأنها رحلة مهمة جمعت بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح، بين العقل والعقيدة، وهي رحلة أثّرت ولا تزال تؤثّر في الشخصية المسلمة في كل زمان وفي كل مكان، فسبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه عُرج به إلى السماوات العلى حيث رأى من آياته الكبرى، عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وليس المطلوب منا أن نبحث في تفاصيل الحادثة أكثر مما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، بقدر ما هو المطلوب، الاستفادة من العبر والدروس التي جاءت الذكرى لترسّخها في النفوس، ولتترجمها على أرض الواقع حتى يمتد حبل الاستمتاع بهذه الذكرى، ولكي تبقى حية في القلوب أبد الدهر. ولم يفصل القرآن الكريم الحديث عنها، بل جاءت الحادثة في بضع آيات وكلمات لخّصت مضامينها، فقد افتتح بها الله عز وجل سورة الإسراء عندما قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهنا يثبت أن الله تعالى أسرى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لكن متى وكيف كانت الرحلة وعلى متن ماذا؟ وماذا رأى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في رحلته، وهل فعلا صلى بالأنبياء والمرسلين جسدا وروحا في المسجد الأقصى المبارك، وكيف رجع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلته، كل ذلك لم يتحدث عنه القرآن الكريم، أما المعراج فقد جاء تلميحا في سورة النجم حيث قال عز وجل: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) رغم اختلاف علماء التفسير في المقصود من هذه الآيات. ولعل أهم درس لنا في هذه الذكرى العظيمة، هو ربط المسلمين بالمكان، والحنين إليه وتخليصه من مغتصبيه، فالقرآن الكريم جعل القدس الشريف مكانا طاهرا مباركا، لا ينبغي أن يدنّسه أحد، ولا يجب أن يغتصبه أحد، ولا يعتدي عليه أحد، فهو ملك للمسلمين وسيبقى كذلك إلى يوم الدّين، شاء من شاء وأبى من أبى، فالله تعالى كأنه يخبرنا في آية الإسراء الأولى أن هذا المكان مقدّس وعليكم أن تحافظوا عليه، وتجعلوه قِبلة لكم، تشدون إليه الرحال، فهو يعلم أن هناك من يريد الاستيلاء عليه بأي حال من الأحوال وتحت أي وهم من الأوهام، ولذلك أمر الله تعالى أن يكون قِبلة للمسلمين في أول عهدهم بالصلاة، ثم ولّى وجوههم إلى المسجد الحرام، ورغم ذلك يبقى القدس الشريف المكان المقدّس العظيم، الذي تشرئبّ له النفوس وتحنّ له القلوب، فليس هناك ما يبعد المسلمين عن مقدّسهم الجميل الذي عهدوه أن يكون مكانا لمعراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمرسلين والأنبياء، وإليه تم إسراؤه وإجلاؤه من البيت الحرام، لتبقى هذه الأمكنة مباركة إلى يوم القيام، حيث تتضاعف فيها الحسنات، ويستجاب فيها الدعاء، ويهم فيها كثير من المسلمين بالبكاء، تضرعا لله وطلبا لرفع البلاء والوباء، وطلبا من الله تعالى أن يمنحهم القوة والعزة والتمكين والإباء، في وقت ضعف فيه المسلمون وأصابهم كل داء، وتهاونوا عن حفظ مقدّساتهم من كل دنس وكل احتلال.

فحادثة الإسراء والمعراج ليست حادثة عابرة في الأرض وفي الفضاء بل هي حدث عالمي قبل أوانه، وسبْق كبير في غزو الفضاء لم يشهد له مثيل في ذلك الزمان، وقدرة الله تعالى فائقة لا تحدّها حدود الزمان والمكان الذي نعيشه، فالله تعالى يشاء متى يريد، ولن يكون إلا ما هو يشاء لذلك قال سبحانه وتعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولقد مثّلت هذه الحادثة نقطة تحوّل في تاريخ الدعوة إلى الله، وبرزت مفاتن المشركين والمنافقين، وبانت عزيمة الصادقين، واهتزّ عرش المتكبّرين والمستهزئين، ومالت الكفّة لأولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبيّنت أن اليقين بالله تعالى درجةٌ لا يصلها إلا المتّقون العارفون بقدرة المولى عزّ وجل على تغيير الأمور، كيفما شاء، وقتما شاء، وأين ما شاء، له الحكمُ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، هذا اليقين هو الذي يدفع المؤمن إلى الطمأنينة والسكينة في زمن الخوف، ويشرح قلبه وقت العسر، فلا تهزّه الخطوب ولا تدغدغه الشكوك، بل يظل صامدا موقنا بأن الله تبارك وتعالى عندما أراد أن يمتحنه ويبتليه أراد أن يرسّخ فيه قيمة الإيمان وقوّته على إحداث تغيير جذري في نفسه، فتصبح توّاقة لربّها الرّحمن الرّحيم، في كل وقت وفي كل حين. وتظل هذه الذكرى في كل عام تشحن المؤمن بهذا اليقين التام، ليواجه كل الصعوبات، كما هو حادث الآن حينما يواجه العالم بأسره فيروس كورونا الجديد، العدو غير المرئي كما يحب أن يسميه الساسة والعلماء، جندوا له كل شيء لمحاربته واحتوائه، ولكن يبقى الأمر لله وحده في أن يفعل ما يشاء، وقد قالها رئيس الوزراء الإيطالي، (انتهت حلول الأرض، ويبقى حل السماء) وفي ذلك إشارة إلى عجز الإنسان عن مواجهته وضعفه الشديد أمام سرعة انتشاره، فمن يوقف هذا الداء، ويرفع هذا البلاء، إنه القادر على كل شيء، والفعّال لما يريد، ومع الاحتياط التام والاستعداد الكامل يبقى التضرع إلى الله والتبتل إليه واجب على كل المسلمين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما اشتد عليه البلاء وخسر زوجته وعمه، وذهب إلى الطائف ورُمي بالحجارة من السفهاء، فجلس إلى الظل وتسيل من بدنه الشريف الدماء، يبتهل إلى الله بالدعاء، أن يرحم أمّته ويُخرج من يرفع راية الإسلام من أصلاب هؤلاء، وظلّ في تضرع رافعا أكفه إلى السماء، تعبيرا عن الاستسلام التام، لرب الإنس والجان، لم ييأس ولم يجزع ولم يطلب مساعدة من أحد، حتى نزل الأمر من السماء، أن يمنحه الله تعالى الجائزة بعد الرجاء، فأسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلا.

ومع الذكرى العظيمة التي رسّخت المكان وربطت أفئدة المسلمين به، تأتي فريضة الصلاة، بلسمًا شافيًا لكل معاناة، فهي المناجاة، وهي الملجأ الذي يلجأ إليها كل مهموم ومغموم وملهوف ومظلوم، فرضها المولى عز وجل على الكيفية التي أرادها وعلّمنا إياها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لتكون الرسالة القوية من رب البشرية إلى عالم الإنسانية، فيها تتجلى معاني الألوهية والعبودية، وحاجة الإنسان الشديدة إلى ربه في كل وقت وفي كل حين، فالصلاة هي المفتاح التي يبدأ بها المسلم يومه، فإن حافظ عليه استطاع أن يلج كل الأبواب بكل سهولة ويسر، وإن أهملها وأضاعها يعسر عليه فتح أي باب، وهي عمود الدّين كما سماها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي التي تأمر المسلم بالطاعات وتنهاه عن المعاصي والسيئات لأنها تجعل المؤمن يعيش حالة من الخوف والرجاء، يؤديها وهو لا يعلم أن الله سيقبلها أم سيرفضها، وفي الوقت نفسه يرجو منه رحمته ورضوانه وغفرانه، وهي الملاذ الآمن للنفس عندما تصطدم بالحياة ومشاكلها وصعوباتها ومعوقاتها، يتفرغ فيها المؤمن للمناجاة ويُفرغ فيها الهموم والغموم التي تصيبه، فيجد الراحة والسكينة والطمأنينة، لذلك علينا أن نفهم معنى الصلاة التي نؤديها وحقيقة العبادة التي نقوم بها، ومن هناك كان مدح الله تعالى لسيدنا إسماعيل عليه السلام الذي كان حريصا على أن يكون أهله من أهل الصلاة كما يفعل هو عندما قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) ومدح سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما أمره قائلا: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) اقتداء بالنبي إسماعيل عليه السلام.