أفكار وآراء

أبعد من كورونا.. التناقضات والصراعات في سوق النفط العالمى

23 مارس 2020
23 مارس 2020

صلاح أبونار -

جاءت جائحة الكورونا معها بانخفاض حاد في الطلب النفطي العالمى، انعكس فوراً على أسعاره لتأخذ في الهبوط. وفي 5 مارس انعقد اجتماع فيينا الطارئ للأوبك، من أجل تخفيض العرض لحماية الأسعار من مواصلة الهبوط واستعادة عافيتها المفقودة. ولكنه بدلا من ذلك دفع صوب نتيجة نقيضة: فيضان في العرض وانهيار في الأسعار. وخلف تلك النتيجة سنجد التأثير المؤكد للوباء، متضخماً بفعل تناقضات وصراعات سوق النفط العالمي.

انطلقت الجائحة في أوائل فبراير، بعد عام حقق فيه سوق النفط العالمي معدلات أداء، أقل من التوقعات المعقودة عليه. فلقد كان الطلب فيه أضعف بوضوح من المتوقع، وظهر أن إمكانيات منشآت التكرير الجديدة تخطت من حجم الطلب الفعلي وبالتالي دخلت في تنافس. ورغم التأثير السلبي للعوامل الجيوبولويتيكية، المتمثلة في تراجع العروض الليبية والفنزويلية والإيرانية بمقدار 3,5 مليون برميل يوميا، ظهر فائضا في العرض دفع الأوبك نحو الترتيب لتخفيضات جديدة.

ومع انطلاق الجائحة بتداعياتها الاقتصادية في الصين وشرق آسيا، ثم انتقالها صوب أوروبا مرورا بالشرق الأوسط أخذ الطلب النفطي المنخفض أصلا في التراجع الحاد. ولدينا تقديرات كثيرة ومتباينة حول حجم التراجع، لكننا سنلجأ إلى تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المنشورة في مارس2020.

خلال الربع الأول من العام انخفض الطلب الصيني 1,8 مليون برميل يوميا، والطلب العالمي بمعزل عن الصين بمقدار 2,5 مليون برميل يوميا. ومع النجاح الصيني في محاصرة الوباء، سوف يشهد الربع الثاني من العام ارتفاعا في الطلب قياسا علي الربع الأول. وتتوقع الوكالة وصول الطلب على النفط خلال هذا العام إلى 99,9 مليون برميل يوميا، أي أقل 90,000 برميل يوميا عن عام 2019. ومع تراجع الطلب تراجعت الأسعار، وسنكتفي بذكر تراجع أسعار خام برنت القياسي.

في 1 أكتوبر كان سعره 60,06 دولار للبرميل، وأخذ في الارتفاع على خط متعرج ليصل في 6 يناير إلى 70,25 دولار، ومن هذا التاريخ أخذ في الانخفاض المطرد.

متى بدأ تأثير الكورونا بالضبط؟

من الصعب أن نحدد لعدة أسباب. تعرف أسعار النفط ما ندعوه بالتغيرات الدورية المتعرجة الصاعدة والهابطة وفقا لمتغيرات عديدة، وسوف نجد هبوطات مماثلة لهبوط الأسبوع الثاني من يناير خلال 2019. وهكذا يبدوا أن العامل الحاسم هو حجم الجائحة وما تمثله من تهديدات اقتصادية.

ولكن المشكلة أن الحجم لا يكفي، فيلزم وجود وعي عام وخارجي بالمشكلة يتصورها كخطر مؤثر على الأسواق، ليس شرطا أن يكون متوافقا مع مستوى الخطر نفسه.

وبالتالي يمكننا افتراض تاريخين اعتمادا على التقرير الأول لمنظمة الصحة العالمية.

يشير الأول إلى تواريخ بدايات معرفة المنظمة بالبؤرة الصينية، والطبيعة الغامضة للفيروس، وسعي الصين لنشر خصائصه الجينية عالميا طلبا للمعونة العلمية، كمؤشر على بدايات الوعي العام بالخطر. في 31 ديسمبر عرفت المنظمة بوجود 44 مصابا بفيروس غامض في الصين، وفى 7 يناير علمت بنجاح الصين في عزل الفيروس الجديد، وفيما بين 11 -15 يناير علمت بظهور حالتين في تايلاند وحالة في اليابان، ونجاح الصين في تحديد خصائص الفيروس الجينية وتوزيعها على العالم.

ويشير الثاني: 21 يناير، تاريخ أول رصد نظامي وعلني قدمته المنظمة لهذه البؤرة، إلى وصول وضع المصابين خلال فترة زمنية قصيرة إلى وضع منذر بالخطر، حيث أصبح عددهم 282 حالة أسفرت عن 6 وفيات، تركز منها 278 في الصين مع 4 حالات في اليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند، أي مؤشرات للتحول إلى جائحة إقليمية وعالمية.

وإذا أخذنا بالتاريخ الأول كبداية افتراضية لتأثير الجائحة على الأسعار، سنجد أن سعر خام برنت في 13 يناير كان 64,14 دولار، ثم أصبح في 4 مارس أي قبيل اجتماع فيينا 51,86 دولار، أي بفارق 12,28 دولارا. وإذا أخذنا بالتاريخ الثاني أي 21 يناير، سنجد أن سعر الخام كان قد انخفض إلى 57,77 دولار، وبالمقارنة بسعر 4 مارس سيقف تأثير الجائحة المباشر على أسعار الخام عند حدود 6,91 دولارا. والخلاصة يتراوح تأثير الجائحة المباشر بين 12,28 كحد أقصى و6,91 كحد أدنى لا غير.

اتجهت الأوبك وحلفاؤها صوب فيينا والكتلة الأكبر منها تدفعها الرغبة في إيقاف واحتواء تداعيات الجائحة ومواجهة الوفرة النفطية السابقة عليها، ولكن الاجتماع انتهى بحرب أسعار قادت إلى تراجع أضخم في سعر النفط. استهدفت الأوبك مواصلة تخفيضات العرض وفقا لاتفاق 2016 لتصبح 3,6 مليون برميل يوميا بإضافة 1,5 مليون برميل جديد.

ولتطبيق القرار كان لابد أن يحصل على موافقة الحليف الأكبر روسيا، ولكن المفاوضات فشلت وأعلن نوفاك وزير الطاقة الروسي: من أبريل يمكن لكل عضو أن يطرح في الأسواق الكمية التي يريدها. وجاء رد الفعل السعودي مزدوجا. رفعت عرضها من 9,7 إلى 12,3 مليون برميل يوميا، وخفضت أسعارها بمعدل يترواح بين 6.4 دولارات للبرميل. وبعد أيام قليلة أعلن أعضاء آخرون قرارات مماثلة، ولكن المنظمة ذاتها لم تعلن تأييدها. وجاءت التداعيات السعرية في سوق النفط كارثية. في 6 مارس انخفض سعر خام برنت من 51,31 دولار للبرميل إلى 45,60 دولار، وواصل الانخفاض ليصل في 16 مارس إلى 30,05، لينحدر في 19 مارس إلى 26,71. والخلاصة انخفض سعر الخام القياسى 24,60 دولار في مدى أسبوعين، أي ضعف معدل الانخفاض الناتج عن الجائحة وفقا لتقديره في حده الأقصى.

كيف يمكننا تفسير هذه النهاية الغريبة؟

تبدو الأوبك ككتلة تنظيمية خارج تلك الحرب السعرية، بل تبدو مهددة في فعاليتها ووجودها نفسه. تتحمل روسيا المسؤولية الأولى عن الموقف الراهن. جاء الرفض الروسي خروجا على إجماع متوافق عليه منذ 2016، وبتصريح نوفاك السابق أطلقت موسكو الطلقة الأولى في الحرب الدائرة. ولو رصدنا التحليلات المطروحة للسلوك الروسي سنرصد عدة عوامل.

أبرز هذه العوامل رغبة روسيا في تقليص المجال السوقي للنفط الصخري الأمريكي. تطور النفط الصخري خلال العقد الأخير بمعدلات قياسية. فلم يحقق لأمريكا اكتفاءً ذاتيا فقط، بل جعلها المنتج النفطي الأول في العالم، وطور تقنيات إنتاجه وقاعدته المنتجة، وأخذ في غزو الأسواق الخارجية مركزا لأسباب اقتصادية وسياسية على أوروبا، وفي تغلغله الأوروبي قلص من مساحة سوقها النفطي الأول والأقرب.

تأسيسا على ذلك ترى موسكو أن سياسة الأوبك للتخفيض المتصاعد للعرض النفطي، وإن أتاحت إمكانية موازنة الأسعار العالمية تفسح الأسواق أمام النفط الصخري وتقلص بالتالي حصتها الأوروبية، والأخطر أنها تمنحه فرصا أوسع للتطور التقني، وبالتالي تخفيض التكلفة ومزيداً من التوسع. ويمكننا رصد عاملين آخرين.

الصراع الدائر بين واشنطون وموسكو، وبالتحديد في المجال النفطي عبر العرقلة الأمريكية لمشاريع خطوط الطاقة الروسية لأوروبا، وفرضها للعقوبات النفطية كما ظهر مؤخرا في العقوبات علي إحدى الشركات النفطية الروسية لتعاملها مع فنزويلا.

ومن جهة أخرى يشير محللون إلى غضب روسيا من السعودية، حيث ترى أنها لم تحصل من الرياض على مقابل لتعاونها النفطي عبر التعاون الاستثماري في المجال النفطي وصفقات السلاح.

ولكن كيف يمكن تفسير الموقف السعودي؟

يوفر الدخل النفطي ما لا يقل عن 65% من الموازنة السعودية، ولكي يمكن موازنة الموارد مع النفقات يجب ألا يقل سعر البرميل عن 70 دولارا. وعمليا يمكن التعايش مع السعر الراهن ولكن لفترة محدودة، والمؤكد أن الخسائر أضخم من تفسيرها بدوافع الرغبة في تأديب موسكو.

وهكذا يشعر المحللون بالحيرة وفي حيرتهم طرح بعضهم فرضيتين على درجة متفاوتة من المعقولية. تفيد الأولى أن ضخامة رد الفعل السعودي في جوهرها تكتيك تفاوضي، يستهدف وضع موسكو تحت ضغط قوي وسريع يجبرها على التنازل والعودة للمفاوضات. ويضيفون أن لهذا التكتيك خسائره الاقتصادية الواضحة، لكنه أيضا ينطوي على مكاسب في صورة اقتحام أسواق جديدة.

ولا تبدو الفرضية الثانية على درجة كبيرة من الصلابة التحليلية، لأنها ببساطة تتبع نمط تحليل يجعل من تداعيات القرار المحتملة علة اتخاذه. وتفيد أن تكثيف العرض وتخفيض السعر سيعمل على تنشيط الاقتصاد، في ظل تراجع معدل النمو قبل كورونا والركود الناتج عنها، وبالتالي تنشيط الطلب على النفط ومعه استعادة الأسعار لعافيتها.

يحمل هذا الانخفاض الضخم لأسعار النفط معه عواقب وخيمة للجميع. ويمكننا أن نجد له أسبابا اقتصادية، لكن أسبابه الكامنة في الإرادات السياسية أكثر كثيراً من الموجودة في جبريات السوق والعرض والطلب. وتواجه الحرب الراهنة أكثر من تحدٍ. فلا أحد ممن شنوها يمكنه مواصلتها للنهاية، ولا أحد من بقية المنتجين الصامتين حتى الآن يمكنه مواصلة صمته أو تحمل تبعاتها الاقتصادية المدمرة، ولا يمكن للأوبك أن تواصل وجودها ودورها الحيوي في ظل صراع بين أكبر قوتين فاعلتين فيها. وما العمل؟

ليس هناك من طريق سوى العودة للمفاوضات والتنازلات المتبادلة والوصول إلى حل وسط. ولا يمكن استمرار أزمة من هذا النمط، بينما الأوبك وحلفاؤها يواجهون زحف النفط الصخري من الأمام، وتغلغل الطاقة البديلة من الخلف.