Untitled-34747
Untitled-34747
المنوعات

مرفأ قراءة .. مجلة «الكتاب» .. درّة المجلات الثقافية في الأربعينيات

21 مارس 2020
21 مارس 2020

1

من الصفحات المجهولة في تاريخ دار المعارف العريقة، وربما لا يعلم عنها الكثيرون شيئًا، أنها بجانب دورها الكبير الضخم في مجال نشر الكتب، قد دخلت ميدان إصدار المجلات الثقافية‏ مبكرًا (مقارنة بمثيلاتها من دور النشر التي تفرغت للكتاب وحده فقط)، ولكنها اقتصرت في ذلك على مجالها الأصلي، وهو (الثقافة)‏،‏ فأصدرت الدار مجلة ثقافية شهرية، هي مجلة «الكتاب»، وصدر العدد الأول منها في نوفمبر سنة 1945‏، أما عددها الأخير فصدر في يونيو سنة ‏1953،‏ أي أنها ظلت تصدر قرابة ثماني سنوات (سبع سنوات وتسعة أشهر على وجه الدقة)‏، وصدر منها تسعة وسبعون عددًا. بعد 67 عاما من توقفها، وبمبادرة من كاتب هذه السطور، ومشاركته في إحياء تراثنا الثقافي النادر، خاصة ما طبع منه منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، أعادت دار المعارف طبع المجموعة الكاملة من هذه المجلة الثقافية النادرة (في 12 مجلدا) صدرت مع مطلع هذا العام (2020)، وبمقدمة مفصلة كتبها الدكتور جابر عصفور.

يقول الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، في افتتاحية محاضرةٍ له عن عادل الغضبان ومجلة «الكتاب»، والدور الذي لعبه أثناء رئاسته لتحريرها: «للأستاذ عادل الغضبان مواهب كثيرة، تجلت في نتاجه الحافل نثرًا وشعرًا، فقد كان كاتبًا مجيدًا، وناقدًا فاضلًا، وقصاصًا مبدعًا، وشاعرًا عرف بالجودة والإتقان، ولكن أبرز نشاطه قد تجلى في مجلدات مجلة «الكتاب»، التي أشرف على إصدارها وتحريرها قرابة السنوات الثماني من سنة 1945 إلى سنة 1953 فَسَدَّت فراغًا كبيرًا في مضمار تفوقها الأدبي والعلمي، لذلك رأيت أن يكون حديثي خاصًا بأثره البارز في تحرير هذه المجلة، وإنه لأثر عظيم..!».

ويقول الأديب السوري المعاصر فاضل السباعي: «واظبتُ على قراءة مجلة «الكتاب» الراقية طوال المرحلتين الإعدادية والثانوية من دراستي، لم يفتني منها عدد.. وزاد اهتمامي بها بعد أن غدوتُ طالبًا في جامعة القاهرة، وقد حرصت على زيارة دار المعارف، وتعرّفت على رئيس تحرير المجلة الشاعر عادل الغضبان، الذي رأيته بشوش الوجه، وذا عينين زرقاوين، وهو سوريّ حلبيّ متمصّر».

2

هذه الدورية الثقافية التي صدرت تحت شعار «مجلة شهرية للآداب والعلوم والفنون»، قُدِّر لها وخلال الفترة التي ظهرت فيها أن تلعب دورا ثقافيا رفيعا ومتميزا بفضل إدارة تحريرها التي كان يترأسها السوري عادل الغضبان، ومنذ عددها الافتتاحي استطاعت المجلة أن تكون في الصف الأول من المجلات الثقافية التي كانت تزخر بها تلك الفترة الزاهية، فترة خصبة ومزدهرة بالعديد من الدوريات الثقافية المتخصصة، تكفي الإشارة إلى مجلة «الرسالة» التي كان يرأسها أحمد حسن الزيات، ومجلة «الثقافة» التي كان يرأس تحريرها أحمد أمين، ومجلة «الكاتب المصري» التي كان يرأس تحريرها طه حسين.

عُدَّت مجلة «الكتاب»، منذ صدورها وحتى توقفها، مجلة راقية تمثل الجانب الأصيل والرصين من الثقافة العربية، وقد ظهرت تقريبًا في التوقيت نفسه الذي ظهرت فيه مجلة «الكاتب المصري» التي كانت تنقل الآثار الثقافية والفكرية في الغرب لتمثل جانبًا آخر من جوانب المعاصرة والحداثة الثقافية في ذلك الوقت، وأراد الغضبان لمجلة «الكتاب» أن تكون منبرًا عاليا ورصينًا للأدب الرفيع، وساحة أدبية مفتوحة لكل أعلام الشرق والغرب، وفتحا للنقد صفحات واسعة، فأدى بذلك للثقافة العربية أعظم خدمة.

كانت «الكتاب» آية فريدة بين المجلات الثقافية العربية في صورتها الجميلة وذوقها الرفيع وتنوعها الثقافي الواسع‏. وأبدت اهتماما كبيرا بالفن التشكيلي العالمي، وحرصت على نشر لوحات ملونة من روائع الإبداع الإنساني في هذا المجال، كذلك حرصت «الكتاب» على الجمع بين الثقافة العصرية والتراث العربي‏،‏ وكانت تمثل جامعة عربية ثقافية، فكانت تنشر في أعدادها الشهرية مقالات ودراسات وقصصًا وقصائد لمختلف الأقلام من مصر وسائر أنحاء الوطن العربي‏، ومن يراجع أعداد هذه المجلة يشم فيها عطر العروبة، ويشهد مدى تركيزها وعمق دعواتها وآرائها النوعية في كون العرب في العقل والوجدان هم أمة واحدة، وإن تعددت الأقطار وتنوعت البلدان واشتدت ضربات الأعداء.

3

صدر العدد الأول من المجلة في أول نوفمبر من عام 1945، وتضمن مواد متنوعة تغطي في موضوعاتها معظم المبادئ الستة التي ظهرت في خطتها، واشترك في تحرير هذا العدد الأول كل من: عباس محمود العقاد، أحمد زكي، شفيق جبري، زكي حسن، أحمد خاكي، هدى شعراوي، عائشة عبدالرحمن، أحمد شاكر، توفيق الحكيم، إسماعيل مظهر، إبراهيم المازني، عبدالوهاب عزام، علي الجارم، وآخرين.

وظهرت في صفحات العدد بوضوح براعة استهلال ممتازة، وتبويب دقيق، واختيار الموضوعات بعناية فائقة، وتسلسل فنونها مما يقدم المثل الراقي للصحافة الأدبية الممتازة، في ذلك الوقت، واتجاه عادل الغضبان في هذا الميدان، هو اتجاه انفرد به بين نظرائه (بتعبير المرحوم علي شلش).

وصدّر الناشر العدد الأول بكلمة أشار فيها إلى رسالة الفكر السامية وجهود دار المعارف في نشر الفكر وحمل رسالته، وكيف أن «الشرق العربي جلا الله له اليوم آفاقا جديدة يستشف من ورائها سبل الحق والحرية والكمال»، وكيف أنه يحتاج إلى قادة الفكر في توجيهه، وأن قادة الفكر يحتاجون إلى مجلة، وهذه هي الكتاب التي شاءت الدار «أن يكون لها يد في تمكين أعلام مصر وجاراتها من توجيه الشعوب العربية إلى توطيد دعائم سيادتها عن طريق الرفيع العالي من العلوم والآداب والفنون».

أما المبادئ العامة التي أعلنها رئيس التحرير في افتتاحيته للعدد الأول من المجلة، فتتلخص في: نشر الثقافة عن طريق الرفيع العالي من الآداب والفنون، معاونة القارئ على اختيار الكتب، عرض ونقل أروع ما تفتقت عنه أذهان الشرقيين والغربيين مع الاعتزاز بالعقل العربي دون انتقاص لسواه، بناء الأدب الحديث على أركان الأدب القديم، التفاعل مع العصر ومنجزاته، المحافظة على أصول البلاغة العربية في تناول الموضوعات.

4

يقول علي شلش في كتابه «دليل المجلات الأدبية في مصر» (ص 98): إن العدد الأول استقبل استقبالا طيبا في السوق، إذ نفدت نسخُه جميعا وأعيد طبعه مرتين، كما جاء في صدر العدد التالي، ومضت المجلة على هذا النحو وهي تبدي اهتماما واضحا وأصيلا بالتراث العربي وقضايا العروبة والمرأة والكتاب، وكان لكتابها موقف واضح في هذه القضايا ومناصرة لتيار الوحدة العربية وتحرير المرأة وترقية الكتاب. وكانت كتابات عادل الغضبان فيها مثار إعجاب الأدباء والقراء معاً لما تتمتع به من أناقة العبارة وبلاغة الأسلوب، وكانت له آراؤه السديدة من خلال الدراسات التي كان يكتبها بحس رهيف عن الشعر المعاصر. أما كتاب المجلة فكان معظمهم من مصر، وبعضهم من البلاد العربية، وأقلهم من غير العرب، وبحسب تقسيم المرحوم علي شلش، فقد كان منهم الشيوخ الراسخون، والكهول المتوسطون، والشبان الواعدون. ويرصد علي شلش بذكاء، أن معظم الكتاب العرب في هذه القائمة، بمن فيهم الكتاب المصريون، هم أنفسهم كتاب المجلات الأخرى الشهيرة في ذلك الوقت، كما أن معظمهم من المتعاملين بصورة مباشرة في النشر مع دار المعارف، التي كانت أرفع دور النشر العربية قدرا، ولهم كتب وإصدارات عن الدار. ويعلق علي شلش على الدور الذي لعبته مجلة (الكتاب) خلال الفترة التي ظهرت فيها، بقوله «كانت المجلة مكملا لعمل مجلة «الكاتب المصري» التي رافقتها نحو ثلاث سنوات، ثم أصبحت الوحيدة من نوعها، بعد توقف «الكاتب المصري»، في انصرافها الأساسي إلى الأدب، وتناولها الجاد العميق لقضايا العصر في هدوء وبعد عن المغامرة، ومع أنها لم تكتشف أو تقدم كاتبًا واحدًا جديدًا كغيرها، فقد كانت سجلًّا أدبيًّا مهمًّا من سجلات العصر».