أفكار وآراء

الوظيفة الحكومية .. بين الامتياز والأعباء

15 مارس 2020
15 مارس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

تأتي جملة «عصر ما بعد النفط» التي على الرغم من معرفة أصحاب القرار بحيثياتها، ومآلاتها، ومجموعة التحديات التي تفرضها، وعلى الرغم من مصادمات أسعار النفط المستمرة بين كل فترة وأخرى، إلا أن «الامتياز الوظيفي للحكومة» لا يزال يرخي حدة السمع، ويعيش هانئا تحت مظلة الضمانات التي توفرها الوظيفة الحكومية،

لا تزال الوظيفة الحكومية تحافظ على امتيازها التاريخي الذي حافظت عليه كل سنوات العمر التي قطعتها منذ أن حل المفهوم الحديث للوظيفة، وبعد أن تنازعت الدور مع الوظيفة في القطاع الخاص، حيث أصبح هذا القطاع -في بعض التجارب الإدارية- مربكًا للوظيفة الحكومية، ومصدر قلق لها، لما يتميز به من مرونة، وتحديث، وتوظيف أكبر للطاقات البشرية العاملة فيه، ولما يحققه من مكاسب غير منكورة، أعلت سهم القطاع، وأوجدت فيه وفرةً ماديةً، ومعنويةً، بينما ظلت الوظيفة الحكومية تراوح مكانها، وبصورها النمطية المختلفة، إجازات بالجملة، رواتب ثابتة بنسبٍ متفاوتةٍ، مناسبات رسمية متعددة، ترقيات للمجموع، امتيازات غير مبررة في بعضها الآخر، ولذلك انسلت منها الكفاءات الباحثة عن التميز، والتقدم، والكسب الأفضل، بعد أن كان للوظيفة الحكومية الفضل في التأهيل والتدريب والإعداد، تحت مفهوم «نمطي» مفاده: الجميع يعمل للوطن، ولذلك تسجل الوظيفة الحكومية خسائر متتالية بفقدانها الكفاءات المميزة، من خلال هدر هذه الطاقات المتوثبة نحو العطاء، وهذا الامتياز التأريخي لن يخدم ميدانها الواسع المعقد، بقدر ما يزيدها من أعباء مادية، ومعنوية، هي في غنى عنها.

من المصطلحات الإدارية الحديثة هو: «الامتياز التاريخي للوظيفة الحكومية» وهو مصطلح يؤكدًا واقعًا، واستمراره يمثل خطورةً تاريخيةً للوظيفة الحكومية، وبالتالي فقدان هذا المكتسب التأريخي للوظيفة الحكومية، معناه الدخول في إشكاليات اجتماعية كثيرة، ولذلك نسمع؛ أحيانا؛ عندما يتم الحديث عن إعادة جدولة الرواتب؛ على سبيل المثال؛ للوظائف الحكومية، تتلبس العاملين في الحكومة حالة من الهذيان، وحالة من الاستنفار، وكأن ما يقال يقض المضاجع إلى حد كبير، وبالتالي وفي ظل ظروف بالغة الخطورة على الحياة العامة للناس؛ وفق هذا الشعور المستنفر، هل ستسعى الأنظمة إلى التحفظ على الامتياز الوظيفي للوظيفة الحكومية، وتسلك طرقا إدارية أخرى؛ أكثر عمليا؛ يجعلها لا تختلف كثيرًا عن امتيازات الوظيفة في القطاع الخاص، مع أن في ذلك مخاطرة «سياسية عالية» فقد تفهم على أنها «قطع أرزاق» وليست إصلاحًا إداريًا مهمًا، ومحوريًا، تتطلبه المرحلة؟

يقول ستيفن هيرتوج، الأستاذ بمدرسة لندن للاقتصاد: «إنَّ الضمانة التاريخية للوظائف الحكومية لا يمكن الاستمرار في التمسك بها»، مضيفًا في الوقت نفسه، أن «المساس بالرواتب العامة سيعني تغييرًا في جوهر العقد الاجتماعي» -حسب المصدر- لأن هذا العقد تم تأصيله عبر ممارسة عمرت طويلا في هذه العلاقة القائمة بين الطرفين، وبالتالي فاقتراب منها؛ حقًا؛ يمثل نقضًا لهذه «الضمانة التأريخية»التي استكان الموظفون تحت مظلتها، وأمنوا حالهم، ومستقرهم، وحدث ذلك لأن الحكومة، منذ البداية، هي جهة التوظيف المثلى التي يحرص على الالتحاق بوظائفها المواطنون.

تسعى الحكومات على تقليص مجموعة الصور النمطية المتأصلة تحت هذه الضمانة، وذلك لتفعيل القدرات، ورفع إنتاج الكفاءات، وحتى لا تكون الوظيفة الحكومية استراحة محارب فقط، ومن جملة المسالك الإدارية التي تتخذها، العمل بنظام البصمة، كخطوة أولى نحو إحكام السيطرة على الترهل في مختلف الممارسات التي تتطلبها الوظيفة الحكومية، ولذلك يتحتم على الموظف أن يخضع لنظام البصمة، ولكن حتى هذه البصمة أصبحت حالة كأداء لكثير من الموظفين، وبالتالي أصبح التحايل عليها واردًا، وتقبل مواعيدها الصارمة أمر في غاية الصعوبة، وعلى الرغم من حرص مسؤولي المؤسسات إلى الزيادة في التشديد على فعالية عمل آلات البصمة، إلا أن الرضا بقبولها كتحييد في العلاقة القائمة بين الموظف ومؤسسته لا يزال دون المستوى، المشكلة أنه حتى كبار المسؤولين من الإدارات الوسطى لا يرتاحون كثيرًا لمشروع البصمة، وعندما فرضت عليهم؛ في بعض التجارب الإدارية؛ كانوا هم أول من أخل بهذه العلاقة، ولعل الصورة «المقنعة» لمهام الوظيفة والمسؤوليات المترتبة عليها هي التي تجعل نظام البصمة غير مؤمن به؛ لأن هناك سؤالًا يطرح باستمرار: «ماذا سوف أعمل اليوم»؟

وهو سؤال جوهري، ويزداد السؤال عمقا مهنيا عندما تزداد أعداد القوى البشرية بشكل كبير على حساب متطلبات الوظيفة الحقيقية، عندها تقل الطاقة الإنتاجية مسجلة بذلك تراجعًا في الإنتاج لا يخدم الوظيفة مطلقًا. تستحوذ فاتورة الأجور في الوظيفة الحكومية، في كثير من الأنظمة الإدارية على التهام الحصة الكبرى من الموازنات العامة، وأصبح التسليم لهذه الفاتورة أمرًا عاديًا حتى في ظل المواقف الصعبة التي تتعرض لها الدول، وقد تصبح على حساب أهم الخدمات التي تقدم للمواطن، لأن المساس بهذه الفاتورة، معناه الذهاب مباشرة إلى مفهوم «قطع الأرزاق» ولذلك تحاول الحكومات التحايل على بعض الامتيازات للتخفيف من وطأتها، مع أن وجود هذه الامتيازات في مؤسسة دون أخرى هو الخطأ الفادح بعينه، فالأصل أن لا تكون هناك امتيازات بالمطلق، لجميع موظفي الحكومة الواحدة، إلا وفق تشريع محدد تقره المؤسسة التشريعية أولا، وتتطلبه الحاجة الملحة لخطورة الممارسة الوظيفية ثانيا، وبالتالي فمع زيادة حصة «الامتياز التاريخي للوظيفة الحكومية» يقابله زيادة في نسبة التضخم «من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي تزداد كفة القروض والدين العام وزنا في كل مرة، وعبئًا اقتصاديًا على الموازنة العامة للدولة، وهذا ما لا يترك خيارًا للحكومة من أن تذهب أكثر إلى فرض خيارات القيمة المضافة على السلع والخدمات في نهاية المطاف، وبالتالي العودة من جديد إلى المربع الأول في شأن توقف الترقيات، وعدم القدرة على دفع العلاوة السنوية، ويحدث هذا أكثر عندما يمول موازنة الدولة مصدرًا وحيدًا من مصادر الدخل، كما هو حال مصدر النفط لدى كثير من الدول، ولذلك يظل الإقدام على تنويع مصادر الدخل أحد أهم الخيارات أمام الحكومات، وهي المصادر القادرة على استيعاب أيد عاملة وطنية أكثر، استحداث امتيازات مشجعة للموظفين، العمل على أنظمة عمل حديثة تلبي طموحات المبدعين من الشباب المقبلين على الوظيفة.

تحاول الحكومات تقليص الفجوات القائمة بين «الامتياز التاريخي للوظيفة الحكومية» وبين واقع الوظيفة في قطاعات الإنتاج الخاصة، من حيث عدد ساعات العمل، والرواتب، والعطلات الرسمية، والإجازات السنوية، فهذه دائمًا هي محط مقارنات يضعها الباحث عن الوظيفة، ويضعها على قائمة قبول أو رفض الوظيفة المتوفرة، ولكن هذا الإجراء يخص مؤسسات القطاع الخاص، وليس يسيرًا على كل مؤسسة أن تقبل التنازل عن أنظمتها وقوانينها التي وضعتها قبل ميلاد المؤسسة ذاتها، وبالتالي فمؤسسات القطاع الخاص القائمة؛ أصلا؛ على مبدأ الربح والخسارة ليس يسيرًا عليها أن تسلك مسلك مؤسسة القطاع العام، والتي هي وفق الفهم العام أن الحكومة «أم الجميع» وبالتالي تطبيق مبدأ «العقد الاجتماعي» مع مؤسسات القطاع الخاص لن يكون عمليا بالدرجة المطلقة، وفي الوقت نفسه، فالحكومة ليست ملزمة أيضا بأن تساهم في هذه العلاقة بشيء من الالتزامات التي تضيف عليها عبئًا إداريًا وماليًا، أيضًا، وعلى الباحثين عن عمل أن يتحملوا مسؤوليتهم الكاملة تجاه الوظيفة التي يجدونها في مؤسسات القطاع الخاص، ومعنى هذا فالامتياز التأريخي للوظيفة الحكومية، ليس يسيرًا تحققه في مؤسسات القطاع الخاص، إلا إن سلكت بعض مؤسسات هذا القطاع شيئا من ذلك، ومن ذلك عندما تتبنى المؤسسات الخاصة فكرة الـ«بطالة» المقنعة عبر توظيف أعداد كبيرة من المواطنين، بغية كسب تسهيلات، تتناور من خلالها مع الأنظمة والقوانين، فهنا المصيبة أكبر.

تأتي جملة «عصر ما بعد النفط» التي على الرغم من معرفة أصحاب القرار بحيثياتها، ومآلاتها، ومجموعة التحديات التي تفرضها، وعلى الرغم من مصادمات أسعار النفط المستمرة بين كل فترة وأخرى، إلا أن «الامتياز الوظيفي للحكومة» لا يزال يرخي حدة السمع، ويعيش هانئا تحت مظلة الضمانات التي توفرها الوظيفة الحكومية، ولذلك تراوح الحالة تموضعها، ومع كل شرارة حادة لتسعيرة النفط، يستذكر الجميع أن هناك أمرًا لا بد من مناقشته وهو «عصر ما بعد النفط».