أفكار وآراء

عن علاقة الثقافة بالهلع العالمي من «كورونا»

14 مارس 2020
14 مارس 2020

د. عبدالعاطي محمد -

من البديهي أن تخشى الشعوب على حياتها، ولذلك تشعر بالهلع كلما تعرضت لكوارث صحية أو بيئية. ومع انتشار فيروس «كورونا المتجدد أو كوفيد - 19»، أظهرت الحكومات، وكذلك منظمة الصحة العالمية، قدرا عاليا من التحرك للحد من الانتشار والبحث عن لقاح وعلاج للطور الجديد والغامض من هذا الفيروس.

ومع ذلك فإن ما لا يمكن إغفاله هو أن المواجهة لها جوانبها الثقافية المتعلقة بالشعوب، مثلما لها جوانب أخرى تتعلق بالقدرات المادية المختلفة والسياسات التي يتم اتخاذها من جانب الحكومات والجهات الدولية المختصة.

ما يدعو إلى لفت الانتباه لأهمية العامل الثقافي في متابعة ردود الفعل المختلفة على انتشار «كورونا»، والبحث تحديدا فيما نعتبره تقصيرا من الناحية الثقافية على مستوى العالم بوجه عام دون تحميل طرف ما المسؤولية عن حالة الهلع التي عمت الجميع، هو أن المواجهة هذه المرة قياسا على حالات سابقة هزت العالم تعلقت بظهور أشكال أخرى من الفيروسات الخطيرة، قد كشفت عن أمرين يستحقان التأمل كدروس مستفادة، خصوصا وأن العالم معرض لأن تتكرر حالات مشابهة مستقبلا، وهما أولا: المبالغة الشديدة في اعتبارات الثقافات الخاصة سواء إيجابا أو سلبا إلى حد ما يمكن اعتباره شكلا من العزلة في عالم من المفترض أن يكون منفتحا وتعدديا. وثانيا: التباطؤ واللامبالاة في تشكيل ثقافة عالمية لمواجهة المخاطر التي من هذا النوع (الأمراض الفتاكة والأوبئة). ويضاف إلى ذلك وجود فجوة بين الجانبين، أي بين الثقافات الخاصة والثقافة العالمية في هذا المجال أي ما توصلت إليه مسيرة البشرية من تطور في الأفكار والقيم الدافعة إلى التقدم والتي من المفترض أن تكون قد أصبحت موضع إجماع بغض النظر عن تمسك كل ثقافة بهويتها وجذورها.

لا يمكن تجاهل بعض ردود الأفعال السلبية ذات المعاني الثقافية التي رافقت الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها بعض الدول كجزء من خطط المواجهة، كأن تتعرض بعض الجاليات الآسيوية من البلدان التي انتشر فيها الفيروس لمضايقات عنصرية مثل رفض الاختلاط بهم في مناسبات عامة. وكذلك أن يتحول الأمر إلى موضوع يتصدر اهتمامات وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المختلفة على شكلين من التناول كليهما أسوأ من الآخر، فالبعض يتندر ويتهكم من وقائع الإصابات والقتلى، والبعض الآخر يهول ويتحدث عن وقائع لم تحدث أصلا فيما يشكل تيارا لتصفية الحسابات بين الحكومات، هذا مع أنه أمر جلل يفترض العقلانية الشديدة في التناول. وللتذكرة فإن البعض من شبكات التواصل سارعت عقب الإعلان عن اكتشاف الفيروس وما يسببه من مرض، وقبل انتشاره عالميا، سارعت إلى التركيز على روايات تتعلق بالسلوك الغذائي للصينيين رأته سببا لظهوره، بينما ذهب البعض الآخر إلى اعتبار ما جرى للصين عقاب من الله على سوء تعاملها مع الأقلية المسلمة هناك. ولو تمهل هؤلاء قليلا من الوقت وأجهدوا عقولهم قليلا أيضا لوجدوا أن الفيروس انتشر أيضا في دول عربية إسلامية، فهل كان ذلك عقابا من الله؟!، بالطبع لا هذا ولا ذاك صحيح بأي صورة من الصور، ولكنه شكل من جنوح بعض الثقافات الوطنية إلى العنصرية إن جاز التعبير، أو محاولة للتخلص من الهلع بالهروب إلى الأمام في صورة التحصن بالانعزالية.

كما لا يمكن تجاهل استغلال الزعامات الشعبوية للكارثة، باعتبار أن الكوارث من عوامل بث الفزع بين الناس الذي هو واحد من المظاهر الدالة عموما على وجود شعب ما جاهز لتقبل خطاب الزعامات الشعبوية. والمعروف أن الشعوب عندما تكون متوازنة فكريا وثقافيا تفكر وتتناقش بعقلانية ومن ثم لا مجال للشعبويين للتأثير عليها لأنهم يحتاجون أساسا إلى شعوب لا تفكر بعقلانية. وأما اعتقاد البعض في أن هناك مؤامرة وراء ظهور وانتشار الفيروس ضمن ما يسمى بالحروب البيولوجية أو لخدمة مصالح كبريات شركات الدواء، فقد كان من أبرز المؤشرات السلبية في التعامل الثقافي من جانب من روجوا لهذا الكلام، ودحضه بسيط من زاوية أنه من غير المعقول أن يأتي المصدر من دولة مثل الصين الرائدة في عالم تصنيع الدواء وأن تقبل على نفسها من الناحية الوطنية الصرفة أن تضع شعبها ضحية هذا الفيروس، وما الذي يمكن قوله مع انتشاره عالميا، هل الدول الأخرى شريكة أيضا في الكارثة؟!!. ولكن لأن فكرة المؤامرة أصبحت من معالم التفكير العالمي المعاصر، ولكونها تأتى على هوى الجامحين من المغرمين بشبكات التواصل الاجتماعي لما فيها من غموض وجاذبية وإتاحة للخيال الجامح، فإنها راجت للأسف. وفي كل الأحوال لا يمكن فصلها عن الخلل الذي يصيب الثقافات وطنية كانت أم عالمية.

لو تأملنا في النظريات المعروفة لتطور النظم السياسية لما وجدنا تفسيرا لهذا الجنوح الثقافي الخاطئ، إلا لو تم اعتباره أحد مخرجات الصراع العالمي الدائر على النفوذ وهيمنة القوة حيث تسقط المعايير الموضوعية والأخلاقية أيضا. أنصار التحديث يقولون، وفقا لما ورد في كتاب د. على الدين هلال عن الانتقال إلى الديمقراطية (عالم المعرفة)، أنه من المهم للغاية للمجتمعات الساعية للانتقال الديمقراطي أن تتوافر لديها من الأصل عدة شروط منها ارتفاع النمو الاقتصادي والتعليم والتصنيع ووجود ثقافة داعمة لمؤسسات النظام الديمقراطي. وأنصار البنائية الوظيفية يؤكدون أن التحول يتم في سياق اجتماعي معين يفرض عددا من القيود والفرص التي يحددها بناء القوة وتوزيع الموارد ونظام القيم والمعايير في المجتمع. وفي هذا الإطار وعلى سبيل النقاش المشروع، تأتى الصين التي خرج منها الفيروس في مقدمة الدول التي يشار إليها بالبنان من حيث القوة الاقتصادية والتصنيع والتعليم. صحيح أنها لا تأخذ بالمعايير الغربية فيما يتعلق بمؤسسات النظام الديمقراطي، ولكننا في هذا المقام نتحدث عن كارثة صحية حيث لا يكون من المتصور عقلا أن مجتمعا ودولة بهذا التقدم وتتعرض لمثل هذه الكارثة خصوصا أنها ليست المرة الأولى فقد سبقها انتشار سارس بين عامى 2002 و 2003 مما يؤكد أن الثقافة لا تقل أهمية في بناء النظم والمجتمعات الحديثة وليس فقط المظاهر المشار إليها سلفا.

وما يعزز ذلك أن ذات الثقافة التي تسببت في المشكلة هي ذاتها التي تتسم بملامح إيجابية يصعب أن ينافسها فيها آخرون ومن أبرز هذه الملامح الالتزام الشديد بتنفيذ تعليمات السلطات والإجراءات التي اتخذتها لاحتواء الكارثة والعمل على الخلاص منها في أقرب وقت ممكن. الالتزام كان مشهودا برغم قسوة الإجراءات. والسؤال المحير هنا هو طالما الالتزام موجود كقيمة ثقافية، لمَ لم يتم العمل به مسبقا فيما يتعلق بتجنب العادات التي تؤدى إلى كوارث صحية؟!. والدرس هو أن الثقافة مهمة للغاية في بناء الأمم والنظم المتقدمة، ومن ثم فإن المراجعة لا تقل أهمية أيضا لضبط نظام القيم السائدة ليس في مجال السياسة كما يتصور البعض وإنما في العادات والسلوكيات الاجتماعية. وعندما يمتد الخطر إلى دول أوروبية متقدمة للغاية، فهذا معناه أننا لا يجب أن نتوقف فقط عند المؤشرات التي قدمها لنا الغرب للتدليل على النهوض السياسي، وإنما نبحث عن الجوانب الإيجابية في ثقافاتنا الوطنية ونعظمها حماية لوجودنا القومي من كوارث الزمن صحية كانت أم بيئية.

على صعيد أخر كشف الهلع عن قصور في وجود ثقافة عالمية تتسم بالتضامن الحقيقي والجاد في مواجهة الكوارث الصحية التي تهدد الجميع. وقد يرى البعض أن قضايا من هذا النوع تتحمل مسئولية مواجهتها الدول كل على حدة بالنظر إلى أن أهم الأولويات لدى أي دولة هو الحفاظ على صحة وسلامة شعبها ومن ثم لها كل الحق فيما تتخذه من سياسات طالما تحقق هذا الهدف. ولا أحد يقلل من هذا التصور، بل نؤكد أنه واجب وطني لا يقبل التساهل أو التنازل. ولكن إذا ما اتخذ الخطر شكل الانتشار العالمي، فهنا تصبح المواجهة مسؤولية الجميع. ووفقا لهذا المبدأ نشأت منظمة الصحة العالمية وأصبحت الجهة التي يلتزم بتعليماتها الكل إلى جانب ما يتم على المستوى الوطني. وفي الحالة الراهنة لم تتأخر المنظمة الدولية بل تحركت على نحو سريع وأعلنت عن توفير 12 مليار دولار للمساعدة في إنهاء الكارثة، كما أعلنت عن اجتماعات ضمت مئات الخبراء للتوصل إلى حل. وبرغم الإقرار بالقيمة العظيمة لهذا التحرك الدولي، إلا أن ذلك لا يمنع من إثارة ملاحظات مشروعة تدلل على أن عالم اليوم لا يتضامن بالشكل الكافي، ومن ذلك أن التنافس الشديد لاقتناء المعرفة كأحد أهم مقومات القوة في الوقت المعاصر يخفي أشكالا من احتكار العلم الحديث وخصوصا فيما يتعلق بصحة وسلامة الإنسان المعاصر أيا كان موطنه، بينما كان من المفترض أن يختفي التنافس في هذا المجال تحديدا ويحل محله التعاون المخلص بين القوى الدولية الكبرى. وبرغم كل الجهود التي تبذلها منظمة الصحة العالمية يظل دور هذه القوى هو العامل الحاسم ليس فقط لأنها هي التي تقدم الدعم المالي والتقني للمنظمة، وإنما لأنها هي التي تتوافر لديها كافة الإمكانيات لوقف مخاطر الكوارث الصحية العالمية ولكنها من الناحية الواقعية تضع مصالحها الوطنية قبل مصالح البشرية على وجه العموم. مثل هذه الأنانية من شأنها أن تجعل خطر التعرض للكوارث الصحية سيفا مسلطا على رقاب الآخرين!.