Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ :التحية بالأكواع

13 مارس 2020
13 مارس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

انتشرت؛ ولا تزال؛ مقاطع «فيديو» تظهر أشخاصا يتبادلون التحية إما بالأكواع، وإما بالأقدام، وهذه؛ يراد لها؛ أن تكون وقاية من مرض «كورونا -19» القاتل، والذي ينتقل عبر الملامسة المباشرة بالأيدي، كما هو المعتاد، أو بالمخاشمة، كما هو عند البعض، حتى أصبح هذا النوع من تبادل التحايا، يأخذ المنحى الفكاهي بين الناس، وينظر إليه كنوع من التندر، متجاوزين ضروريات عدم الملامسة؛ في حالة حدوثها، وانتقال هذا الفيروس القاتل؛ في حالة إصابة أحدهما، وخطورة نقل المرض من هذا إلى ذلك، أو العكس، وكما يقال: «شر البلية ما يضحك».

تذهب المناقشة هنا أكثر إلى مجموعة الرمزيات التي تحملها سلوكيات الناس في توظيف مجموعات التحايا المتبادلة بين الناس، فمجموعة الألفاظ، هي تحايا (وإذا حييتم بتحية، فحيوا بأحسن منها أو ردوها) كما هو النص القرآني العظيم، ومجموعة الحركات: سواء انحناءات الأجسام عند بعض الشعوب، أو الحركة الموضعية للرأس، أو السلام بقبضة اليد، أو بتحريك رموش العين، أو بتبادل الورود في بعض المواقف، تذهب كلها إلى ما تعارف عليه الناس في شأن التحية المتبادلة بين أي شخصين، أو أكثر، وهناك من يجتهد أكثر، ولا يكتفي بالإشارة، أو بإرسال العبارات المعبرة عن التحية عن بعد، وإنما يحرص على أن يحي كل فرد في المجلس، حتى ولو كان هذا المجلس يضم أعدادا كبيرة من الناس، كما هو الحال في مناسبات عقد القران، أو المواساة في المصائب، أو لمناسبات أخرى كثيرة.

فما هي الرمزية الأهم من هذه الصورة الاجتماعية المتعارف فيها بين كل الشعوب؛ بلا استثناء؛ حيث لم نعهد حتى الآن أن هناك شعوبا لا تمثل لهم التحية شيئا مهما؟ لعل الثيمة المتعارف عليها ضمنيا هي ثيمة الآمان، والاطمئنان، فمن يسلم عليك هو مطمئن إليك، وبأنك لن تغدر به، حتى ولو كنت مدججا بالأسلحة، ومن يلقى غير الذي يعتقد، يكون الطرف الآخر سيء الخلق مذموما، منبوذا، غدارا، تجوز في حقه اللعنات، وهذا الاطمئنان ليس فقط درءا من مهاجمة محتملة في لحظتها، ولكنه اطمئنان يذهب أكثر إلى كل تفاصيل العلاقات التي تربط بين الطرفين، وتتضمن كذلك كل المعاملات المتبادلة، وكل المشروعات المشتركة، لأنها مساحة واسعة تستوعب كل الأنشطة البشرية القائمة بين الناس.

فيما يروى عن الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: «لو اطلع الناس على ما في قلوب بعضهم بعضا لما تصافحوا إلا بالسيوف» -حسب المصدر-. ولعله من الحكمة التي أودعها الله في سر خلقه، أن أخفى عن الناس الاطلاع على ما في قلوب بعضهم بعضا، وإلا لما تقارب أكثر الناس من بعضهم البعض، ولغدت الحياة كئيبة، وثقيلة، فالحالة البشرية هذه لن يستطيع أحد تحملها، وإن كانت الممارسات تنبئ عنها في كثير المواقف، وقد تكتشف؛ في بعض الأحيان؛ وأنت لا تزال في لحظة ممارسة التحية لآخرين، أن قلب صاحبك يكاد ينفجر مما فيه عليك من الحمق، والغيظ، ومن هنا أيضا يأتي تثمين الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، على مواقفهم البطولية هذه، فالأمر ليس يسيرا، إلا لمن أكرمه الله بطول النفس، وقدرة استيعاب حنق الآخرين عليه.

عندما تبدأ في تحية آخرين يصطفون في صفوف طويلة، تشعر في الأيادي الممدودة إليك بالحب والرضا، وفي بعضها الإهمال، وفي ثالثها يكاد صاحبها أن يفترسك، وفي رابعها ابتسامة صفراء وكأنك من قارة أخرى، ومع انتهائك من التحية على هذه الجموع الغفيرة المتكورة على مصائبها، ومآسيها، وحنقها، وكرهها، وانفعالاتها، وموات قلوبها، تدرك أن ما بذلته من جهد في هذه التحية الطويلة، عملا فارغا لا قيمة له، وكان الأجدر بك أن تتخذ مكانا ما في المجلس، وتريح نفسك من هذا العناء المتبادل بينك وبين من تمد إليه يدك.