أفكار وآراء

مباراة الفزع والأمل

11 مارس 2020
11 مارس 2020

مصباح قطب -

[email protected] -

هل فات الأوان أم ليس بعد؟. تمنيت وقد يتمنى غيرى، أن نعيد قراءة الجملة الشعبية الدارجة في الثقافة العربية والإسلامية: (اعمل اللي عليك والباقي على ربنا)، لندرك أين هو المخرج الصحيح من أزمة كورونا المحتدمة في أرجاء المعمورة.

لا أحد يملك حلا أو علاجا. لا أحد يملك أكثر من التشدد في مجال النظافة الشخصية وغسيل الأيدي وتفادي التقبيل والزحام، أو الاقتراب الزائد من الآخرين، وخاصة في مواطن شيوع الاشتباه بالإصابة. لا دولة، مهما كبرت، تملك سوى البحث والرصد والمتابعة والتوجيه العام، واتخاذ ما يجب من قرارات بخصوص تضييق الخناق على انتشار الفيروس حال ثبت وجوده بالداخل، أم في البلاد التي يأتي إليها منها مسافرون لأي غرض.

فما العمل؟. إذا عزلت الصين وإيران وإيطاليا... مزيد من عشرات الملايين والملايين فسيبقى في النهاية من يعملون في إنتاج الخضروات والفاكهة والخبز والجبن والزبدة ومياه الشرب وأسطوانات الغاز والوقود ويشغلون محطات الكهرباء وينظفون الشوارع وينقلون الناس ويستقبلون المصابين والمرضى بأي مرض في المستشفيات ...، أي أن الحياة في أسوأ الظروف لن تتوقف، وحتى لو افترضنا أن كل من على ظهر الكوكب أصبح خائفا من الوباء.

لو انطلقنا من أن الحياة ستستمر وأن كل ما علينا من واجب هو بسيط - غسيل اليدين وعدم الاحتكاك الخ - لتغير الكثير مما يجري في العالم اليوم. لا جديد فيما أذكره ففي كل الأزمات الواسعة التي سببت هلعا وخسائر اقتصادية بشعة للأفراد والمؤسسات والدول، تبين بعدها انه كان يمكن بقليل من الحكمة الحد من الخسائر إلى درجة كبيرة ، فهل تحتم علينا أن نمضي انسياقا إلى الهاوية ثم نتباكى بعدها مرة أخرى؟

لو سألت العاملين في السياحة - أكبر قطاع خاسر من المحنة ومعه النقل والسفر والطيران...- هل نوقف قدوم السائحين حماية لهم ولكم أم نتركهم يأتون وتتحملون أنتم قدرا من المخاطرة بالحياة ؟ ، أخشى أن الإجابة في دول عديدة ستكون : دعوهم يأتون والأعمار بيد الله ! . لا أدعو مطلقا إلى فرض هذا الخيار، أو اللجوء إليه، لكن أوضح أن هناك جانبا في البشر مستعد لتقبل المخاطرة من أجل أن تستمر الحياة، وهؤلاء هم الذين نقول - سرا - لأنفسنا عن وجودهم، أنه أمر مطمئن لأنه لو توقف كل شيء فسيظل هناك من يعملون من أجلنا لنأكل ونشرب ومن أجل لقمة عيشهم. إلا يتطلب إدارك المسكوت عنه ذاك أن نقلل من أنانيتنا، ونتناقش معا بروح إنسانية وبمساواة خالصة حول ما يجب عمله لمنع وقف سير الحياة بكل زخمها الاقتصادي والاجتماعي والروحي والسياسي والأحزاني الخ ؟ .

لقد أكد استاذ أمريكي متخصص في البيولوجيا وباحثة إيطالية مستقلة منذ أيام في مقال مشترك على موقع « بروجيكت سنديكيت» ، أن ثمة جانبين مظلمين من كورونا أولهما الأسواق الرطبة التي يتم فيها تعييش وذبح وتنظيف وتجميد وبيع الأسماك والحيوانات التي تؤكل، وهي ستظل طوال الوقت منتجة لأنواع من الفيروسات لا نعلم مدى خطرها، والثاني جانب أخلاقي يخص الممارسات البشرية الرديئة ضد الكائنات التي تربي وتذبح وتقطع لنأكلها، ويتجلى ذلك في السلوك الذي نراه في تلك الأسواق والذي ترتب عليه أن تمكن الفيروس الذي كانت تستضيفه الطيور والخفافيش أو الزواحف، من التحور، ليصبح ضيفا على الإنسان بل وقاتلا له أحيانا. لا أستعيد أبا العلاء المعري وحديثه عن الديك هنا، ولكن أشير إلى أن في المأساة جانبا إنسانيا لابد وإجباريا من مراعاته في المستقبل ألا وهو ضرورة التعامل برفق مع كل كائن حي حتى ولو كنا سنتناوله طعاما بعد ذبحه... إن لم يكن من أجله كروح فمن أجل أنفسنا ولتوقي العدوى والتحورات الفيروسية.

هذا الأسبوع رأينا كوراث في أسعار النفط وأسعار الأسهم وعوائد السندات وحجومات الخسائر الضخمة المتوقعة في كل قطاع معني أو على المستوى العالمي كله ...وتجري التسابقات يوميا في صالات التحرير بالصحف والمواقع على قدم وساق لمتابعة وربما اصطياد مزيد من الأخبار المخيفة حول كورونا ونبش ملف كل حادثة تخصه لاستخراج ما يزيد الرعب رعبا- بحسن نية غالبا - عبر افتراضات لا سند كبيرا لها، وقد دفع الأمر رجل الأعمال نجيب ساويرس إلى أن يقول مؤخرا انه لن يشاهد أي أخبار ليلا وسيكتفي بمشاهدة فيلم جيد ثم النوم.

رأى بعضنا فعلا ويرى الطريقة التي يتبارى بها الزميلات والزملاء في الصحف في نقل الأخبار التعيسة بنوع غامض من المشاعر خاصة تلك التي تتعلق بإلغاء نشاطات إنسانية. لا آخر للفعاليات المحلية والعالمية التي يمكن أن تلغى مخافة انتشار المرض، وقد يكون قرار الإلغاء صحيحا أو هو أكثر صحة مما نعتقد ، لكن تحليل الدوافع مفيد للغاية. ثمة مؤتمر اقتصادي بحثي دولي كان سيقام بالأقصر- مصر- في نهاية مارس وتم تأجيله منذ أسبوع لأن الباحثين وبعد أن رأوا البنك وصندوق النقد الدوليين يلغيان فعالية ويكتفيان بالتحاور عبر الفيديو كونفراس أو الإنترنت مالوا إلى التأجيل، كما أن كل جامعة أو مركز بحثي يقول لمن يعتزم السفر أن الأمر على مسؤوليتك، بمعنى أنه لو جرى له أي شيء فلن يتم تعويضه أو تعويض أسرته . في هكذا أجواء لا تستطيع أن تحدد من المخطئ ومن المصيب ، لكن أيضا فإن معرفة الخلفية تؤكد على الأقل أن كثرة الإلغاءات ليست عنوانا على قوة الكارثة أو أنها أصبحت بالفعل وباء لا سبيل لصده.

أوردت مواقع لا حصر لها كيف أن حالات الوفاة من الإنفلونزا أو المرور أو الملاريا أو «سارس» أو سرطان الرئة أو.أو. ، أكبر بكثير من كورونا، بل أن معدل الوفاة في «سارس» كان نحو 10% من الإصابات ( وكان عددها للحق أقل بكثير من كورونا)، وفى كورونا واحد إلى اثنين بالمائة. لا أاملك ولا يملك غيري أن يقدم حلا لهذه المعضلة، أي معضلة أن خطر الوفاة ليس طاغيا لنتحوط بما يشل الحياة نفسها، لكن فلنفكر قليلا في الثمن الذي يمكن أن ندفعه جماعيا لو أوقفنا عجلة الحياة بأيدينا ونجم عن ذلك موت الملايين بدلا عن أن يموت عدة ألوف من جراء كورونا؟ .

إن من غرائب الطبيعة الشرقية أن إيمان الناس بالقضاء والقدر قوي للغاية، وفي كثير من المواقف لا يعنيهم الموت حرفيا، وفي المقابل نجدهم في حالات أخرى مثل وجود عدوى أو وباء أو شائعة كبيرة عنهما يتسابقون في الوقوع في الهلع أو حتى الموت به.

يبقى أن أشير إلى أن انهيار أسعار النفط الخام عنوان واقعي وتعبير عن مشهد واضح نلمسه وهو مخيف بأكثر مما تخيف الكلمات، لكن من يستطيع أن يؤكد انه سيستمر هكذا ؟ خاصة وأن قراءة استراتيجيات وظروف المنتجين الكبار (السعودية وروسيا مثلا وما جرى بينهما من خلاف بشأن خفض الإنتاج مؤخرا ما قاد إلى هبوط دراماتيكي) تقول إن هذا لا يمكن أن يدوم مهما كانت الفوائد التي يحققها هذا الطرف أو ذاك على حساب آخرين. فروسيا مثلا تميل بخفض السعر إلى وقف صناعة النفط الصخري الأمريكي، ولو ضحت هي، والسعودية كانت تود خفض الإنتاج إضافيا لمواجهة ضعف الطلب مع كورونا، ومع أن ذلك مفيد لروسيا إلا أنها فضلت الهدف الآخر، والولايات المتحدة معلقة ما بين رغبة ترامب في رؤية النفط رخيصا فذلك مفيد له في الانتخابات، وبين ما يراه ترامب نفسه من خسائر تلحق بعمالقة صناعة النفط وحملة أسهمهم وهكذا.

أسواق المال قلقة. نعم. بل ومرعوبة، لكن ألم يقل ألف قائل من قبل إنه توجد فقاعة أسهم في الولايات المتحدة وأنها حتما ستنفجر في لحظة؟ . الذعر في جميع أنحاء العالم يهدد بالركود الاقتصادي العالمي، وتوقع الركود كان قائما من قبل كورونا، والمحصلة انه يقينا سيحدث ركود أو تباطؤ قوي، ولكن الانخراط في تجارة الهلع يضاعف الخسارة بينما نهج «نعمل اللي علينا والباقي على الله»، قد يفيد الإنسانية والأفراد والأوطان، وينقذهم، والخيار لنا.