الملف السياسي

نهاية للتورط الأمريكي وليس الأزمة الأفغانية

09 مارس 2020
09 مارس 2020

صلاح أبو نار -

في 29 فبراير شهدت الدوحة توقيع اتفاقية السلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، بعد تسع جولات تفاوضية أجريت على مدى عامين. والأمر المؤكد أن الاتفاقية يمكنها إذا مضت في طريقها، أن تخرج الولايات المتحدة من أطول حروبها الحديثة على مدى 18 عامًا، ولكن ليس من المرجح أن تكون قادرةً على إخراج أفغانستان من أزمتها التاريخية.

حملت الاتفاقية التي وقعها الملا عبدالغني برادر والمندوب الأمريكي زلماي خليل زادة، هذا الاسم الغريب:«اتفاقية من أجل تحقيق السلام في أفغانستان بين إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة بوصفها دولة وتُعرف باسم طالبان والولايات المتحدة الأمريكية».

وتتكون الاتفاقية من مقدمة وثلاثة أجزاء. تطرح المقدمة العناصر الأربعة المكونة لما تدعوه «اتفاق السلام الشامل»، وهي حسب ترتيبها: ضمانات وآليات تنفيذ عدم استخدام الأراضي الأفغانية من جانب أي أفراد أو جماعة ضد أمن أمريكا وحلفاؤها، ويليها ضمانات وآليات وإعلان جدول زمني من أجل انسحاب كل القوات الأجنبية من أفغانستان، ويلي الإعلان عن الخطوتين السابقتين بدء طالبان في المفاوضات مع أطراف أفغانية أخرى في 10 مارس حول خريطة طريق لمستقبل أفغانستان السياسي، وفي أطار المفاوضات المذكورة ستتفاوض الأطراف حول وقف إطلاق نار شامل سيعلن عنه مع اكتمال الاتفاق على خريطة الطريق.

ويشكل الاتفاق الراهن التوافق الثنائي بشأن العنصرين الأولين، كمقدمة لاتفاق ثنائي تالي بشأن العنصرين الثالث والرابع.

ماهي أساسيات هذا التوافق؟

سنجد الأساس الأول في الالتزامات الأربعة التي تعهدت بها واشنطن تجاه طالبان، وهي سحب كل القوات العسكرية الأجنبية، والإفراج عن مساجين ومعتقلي طالبان، وإزالة العقوبات المفروضة عليها، والامتناع عن التدخل في شئون أفغانستان الداخلية، وتأسيس علاقات سياسية واقتصادية إيجابية وتعاونية مع أفغانستان، والمشاركة في إعادة بنائها.

وسنجد الأساس الثاني في التزامات طالبان الخمسة، وهي عدم السماح لأعضائها أو لأي جماعات أخرى باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن أمريكا وحلفائها، وإرسال رسالة واضحة للأفراد والجماعات التي تشكل تهديدًا لأمن أمريكا وحلفائها تفيد أن لا مكان لهم في أفغانستان، ومنع أي عمليات للتجنيد والتدريب لأي عناصر تهدد أمن أمريكا وحلفائها، والامتناع عن توفير أي جوازات أو وثائق أو تصاريح سفر لأفراد يشكلون تهديدًا لأمن أمريكا وحلفائها، والشروع في مفاوضات مع أطراف أفغانية أخرى من أجل خريطة طريق لمستقبل أفغانستان السياسي.

وسنجد الأساس الثالث في الطبيعة التدريجية والاشتراطية للالتزامات. فالالتزامات الأمريكية ستنفذ على مراحل زمنية محددة، وتنتقل من مرحلة لأخرى مع بناء الثقة الناتجة عن تنفيذ طالبان لالتزاماتها ونمو الحوار الأفغاني، ومع الحق الأمريكي في تقييم حصيلة تنفيذ طالبان لتعهداتها.

ولن يكتمل فهمنا لدلالة الالتزامات ومسارها السياسي إلا برصد أشكال التعبير عن الطرف الأفغاني.

سنلاحظ -

أولا : إن طالبان يشار إليها علي امتداد الاتفاقية، بمسمي «إمارة أفغانستان الإسلامية»، أي اسم الدولة التي أسستها وأدارتها فيما بين سيطرتها على كابول 1996والغزو الأمريكي 2001، ثم تضيف بعد ذلك مباشرة وفي كل مرة «التي لا تعترف بها الولايات المتحدة وتُعرف باسم طالبان».

وسنلاحظ . ثانيا : أن الكيان السياسي الأفغاني الرسمي الذي سينبثق بعد مفاوضات القوى الأفغانية واتفاقها، تشير إليه الاتفاقية في موقعين بعبارة «حكومة أفغانستان الإسلامية الجديدة»، أي أن الفارق بين هذا الاسم والمسمى السابق هو حلول «حكومة» محل «إمارة».

وسنلاحظ. ثالثا: إن حكومة أفغانستان الراهنة والتي تحظى بالحماية الأمريكية، لم يرد ذكرها مرة واحدة في الاتفاقية بهذا الاسم.

وعند ذكرها مباشرة أو ما يتعلق بها كان يشار إليها بعبارات عامة، فعند الإشارة إلى أسراها أشير اليهم كمساجين «الجانب الآخر»، وعند الإشارة لدور حكومة كابول في الإفراج عن الأسرى أشير إليها بوصفها «الجهات المعنية»، وعند الإشارة لدورها في المفاوضات القادمة أشير إليها كجزء من «الأطراف الأفغانية».

وسنلاحظ . رابعا: إن الاتفاقية تكلف طالبان بالتزامات لا تلقي في الاتفاقيات إلا على عاتق الدول.

جاء في 4 -2: «تلتزم إمارة أفغانستان الإسلامية، بأن تتعامل مع الباحثين عن لجوء سياسي أو إقامة وفقا لقواعد قانون الهجرة الدولي والالتزامات الواردة في الاتفاقية، حتى لا يشكل هؤلاء الأفراد تهديدًا لأمن الولايات المتحدة». وجاء في البند 5-2: «تلتزم إمارة طالبان الإسلامية، بانها لن تصدر تأشيرات دخول أوجوازات سفر أو تصاريح سفر أو أي وثائق قانونية أخرى لدخول أفغانستان، لهؤلاء الذين يشكلون خطرًا على أمن الولايات المتحدة».

بماذا نخرج من التحليل السابق؟

لدينا اتفاقية تنطوي على نوعين من النصوص.

نصوص قاطعة الصياغة والدلالة، سنجدها داخل تحديدها لالتزامات الطرفين، وأخرى غير قاطعة الصياغة ولكنها واضحة الدلالة، نجدها داخل تعريفها المراوغ لهوية الطرف الأفغاني.

تشكل النصوص القاطعة صلب الاتفاق المعلن موضع التحليل، وتشير النصوص غير القاطعة إلى وجود صفقة سياسية مكملة خلف هذا الاتفاق المعلن.

ماهي عناصر الصفقة الخلفية المكملة؟

كما نستدل من النصوص غير القاطعة سوف تتخلى واشنطن عن الحكومة الأفغانية الراهنة، وتسمح لطالبان باستعادة السلطة وإعادة بناء نظامها السياسي السابق مع بعض التعديل والتهذيب، عبر عملية سياسية مركبة يصعب تصور مسارها، لكنها ستتكون عبر مزيج من المسار التفاوضي الذي سيضم عدة أطراف أفغانية، وتطويع واشنطن لنظام كابول ورفعها للحماية العسكرية والسياسية عنه، وتسامح سياسي وعسكري محسوب مع طالبان.

وماهو المقابل من جهة طالبان؟

يبدو الثمن الذي أوردناه وتعهدت رسميا بدفعه كافيا للمقابل الأمريكي، ولكن من المرجح وجود ثمن آخر ستدفعه في إطار الصفقة غير المعلنة، سيتخذ غالبا شكل ترتيبات أمنية ضامنة لالتزام طالبان الفعلي بتعهداتها في نطاق سلطتها، وتقديم ما لديها من معلومات عن الشبكات الإرهابية الموجودة خارج نطاق نفوذها.

وتبدو مكاسب طالبان الواردة في الاتفاقية كافية تمامًا لتفسير موقفها، وما يحتاج لتحليل هو الموقف الأمريكي. اقتحمت واشنطن أفغانستان بعد 11 سبتمبر 2001 من أجل استئصال تنظيم القاعدة، والقضاء على دولة طالبان التي تحولت إلى قوة استقطاب ومجال لنمو تنظيمات الإرهاب العالمي. وبعد ما يقرب من عقدين من التدخل الأمريكي تراجعت قوة تنظيم القاعدة داخل أفغانستان إلى حد كبير ولم يعد يشكل تهديدًا عالميًا، ولكن طالبان بعد تراجع لسنوات استعادت قوتها وباتت تسيطر على أغلب البلاد.

ولكن أفغانستان ذاتها ظلت على مدى العقدين الأخيرين من أعلى دول العالم في معدل الإرهاب، وفي عام 2018 احتلت المكانة الأولى بنسبة زيادة 71% بالمقارنة بعام 2017 في عدد قتلى الإرهاب، وفي نفس العام شهدت 16 حادثًا من أخطر 20 حادثًا إرهابيًا في العالم.

وسنجد تفسيرًا لهذا داخل وضعها السياسي، بما ينطوي عليه من انقسامات سياسية وعرقية مصحوبة بصراعات عسكرية متواصلة.

ورغم محدودية دور تنظيمات الإرهاب العالمي المتوطنة داخل أفغانستان في هذا العنف، تظل أفغانستان قادرة بحكم ذات الخصائص على اجتذاب هذه التنظيمات وتوطينها وتطويرها. إلا أن قدرة تنظيمات الإرهاب العالمي المتوطنة في أفغانستان أو خارجها، على الوصول للولايات المتحدة وأوروبا قد أضحت خلال السنوات الأخيرة محدودة، في إطار المواجهة الاستراتيجية الناجحة.

ونجد دليلا على ذلك في الإحصائيات. في عام 2007 وصلت أحداث الإرهاب لذروتها بمعدل 14.414، ثم أخذت في الانخفاض لتصل عام 2012 إلى 6.771 فقط . لكنها قفزت في عام 2014 مع صعود داعش وبوكو حرام إلى 13.482، لتأخذ في الهبوط مع الحملة الدولية ضدهما لتصل عام 2018 إلى 8.093، وبالتوازي مع ذلك هبط عدد ضحاياها بنسبة 52%.

وفي هذا السياق هبط إعداد قتلى الإرهاب في الشرق الأوسط بنسبة 70% عام 2018 بالمقارنة بعام 2017، وفي 2018 كانت الجماعات الإسلامية مسؤولة عن 6.8% فقط من ضحايا الإرهاب في أوروبا، وحادثان فقط من 57 حادثا في أمريكا.

ويمنحنا التحليل السابق العامل الأول الصانع للقرار الأمريكي. لم يعد الإرهاب العالمي بفعل المواجهة الناجحة وتفكيكية، قادرا على الوصول المؤثر إلى أوروبا وأمريكا. وهو يتراجع بحدة في الشرق الأوسط أي أكبر مصادر تصديره للغرب، وفي وجودة المكثف داخل أفغانستان يتجه كليا إلى الداخل وعاجز عن التمدد صوب الغرب. وهو ما يعني إمكانية التعايش الأمريكي مع طالبان، بشرط ألا تتحول أفغانستان عند استعادتها لسيطرتها إلى موطن للإرهاب العالمي وإعادة تصديره، بل إلى قوة لمحاصرته والتعاون ضده.

ويأتي بعد ذلك عوامل أخرى. أشار بومبيو لاقتناع المؤسسة العسكرية باستحالة كسب حربها الأفغانية إلا مع زيادة ضخمة في الجنود. ويشير محللون إلى أن استراتيجية ترامب الأصلية، كانت عسكرية هجومية شاملة وتسعى لهزيمه طالبان، وأن عام 2019 شهد غارات جوية أمريكية أكثر من أي عام مضي، إلا أنها انتهت للفشل.

ويشير آخرون إلى ضخامة التكلفة الاقتصادية للحرب والتي وصلت إلى 2 تريليون دولار.

والخلاصة: إذا قدر لتلك الاتفاقية النجاح، فلن يعني نجاحها سوى نهاية المأزق الأمريكي وتواصل المأزق الأفغاني. ذلك أن المدخل الأمريكي للاتفاقية، لا يعني سوى بالتزام طالبان بالضمانات الأمنية المطلوبة، دون أي ضمانات أخرى تتعلق بشكل الحكم السياسي وأسس التوافق الوطني وحقوق المواطنين.