واشنطن وطالبان .. سلام بعد الخصام؟
إميل أمين -
ما هو سر بعض دول العالم التي تحارب الجغرافيا مع أهلها وعليه تضحى مسألة احتلالها أمرًا غير ممكن مهما طال زمن الاحتلال، ومهما خيل للناظر أن الغازي بعديد قواته قادر على تغير أوضاعها وتبديل طباعها؟
من بين بضع دول قليلة حول العالم تأتي أفغانستان كنموذج مؤكد ومقطوع به لمثل هذه الحالة، فمنذ زمن بعيد وتحديدا مع أواخر القرن التاسع عشر خشى البريطانيون على الهند، جوهرة التاج بالنسبة لهم، ولهذا قاموا باحتلال أفغانستان، وفي نهايات السبعينات من القرن العشرين كرر السوفييت التجربة، إذ اعتبروا أن الأمريكيين منشغلين في قضايا أخرى، ومع أوائل الألفية وبعد الاعتداء الإرهابي على نيويورك وواشنطن جاء الدور على الولايات المتحدة الأمريكية لتغير على أفغانستان، وتسعى لاحتلال البلد الذي لعبت فيه واشنطن دورًا لا يزال مثيرًا للجدل حتى الساعة وبالشراكة مع جماعة طالبان عينها.
أثبتت التجربة التاريخية أن ما من قوة احتلال قدر لها أن تسيطر على الأوضاع في أفغانستان، وكما انسحب البريطانيين فعل السوفييت، وعلامة الاستفهام في هذه السطور هل الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان اذا قدر له أن يكتمل، هو آخر انسحابات القوات المحتلة، وهل يضمن وهذا هو الأهم للأمريكيين سلاما دائما مع القوى الأفغانية المختلفة وفي المقدمة منها طالبان، التي باتت الرقم الصعب في المعادلة الأفغانية؟
في الأيام القليلة الماضية أعلن مسؤولون أمريكيون وأفغان أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو سيسحبون قواتهم من أفغانستان خلال 14 شهرا، وذلك حال إيفاء حركة طالبان بالتزاماتها بموجب اتفاق تم توقيعه في العاصمة القطرية في اليوم الأخير من شهر فبراير الماضي.
قبل أن يدلف دونالد ترامب إلى داخل البيت الأبيض وخلال حملته الانتخابية، كان الرجل قد قطع وعودا وأبرم عهودا على نفسه بالانسحاب من كافة البقاع والأصقاع المنتشرة فيها القوات الأمريكية، وقد اطلق صيحته الشهيرة: «أمريكا ليست شرطي العالم أو دركه»، وأن الدماء الأمريكية يجب أن تصان.
وها هو على بعد بضعة أشهر من الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل يكاد يقوم بسحب أكبر عديد من قواته، وحيث واحدة من أخطر الأماكن بالنسبة للجنود الأمريكيين.
غداة توقيع الاتفاق أشار ترامب إلى أن الأمر كان رحلة طويلة وشاقة في أفغانستان، وأنه حان الوقت بعد كل هذه السنوات لإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.
يمهد الاتفاق الذي أبرام بين الأمريكيين وبين طالبان لإحلال السلام في أفغانستان بعد أكثر من 18 عاما من الصراع، وقد جاء في البيان الأمريكي الأفغاني المشترك: «أن التحالف سيكمل سحب باقي قواته من أفغانستان في غضون 14 شهرًا من نشر هذا البيان المشترك، والاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان».
على أن علامة الاستفهام الرئيسة في هذه القراءة: «ما هو المطلوب من طالبان حتى يكتمل الانسحاب الأمريكي؟
بداية هناك مسألة الإفراج المتبادل عن الآلاف من الأسرى بين طالبان، وبين القوات الأفغانية الحكومية، ثم عودة طالبان إلى أفق الحياة السياسية الأمريكية، واستبدال التعاطي الطالباني التقليدي منذ ثمانينات القرن الماضي أي اللجوء إلى القوة والإرهاب إلى النمط الدبلوماسي، وأحداث حالة تواصل مع كافة الفعاليات السياسية الأفغانية، بحسب منطلقات اتفاقية السلام.
في هذا السياق هناك أكثر من سؤال يطل برأسه من نافذة الأحداث، ومن بين تلك الأسئلة هل الأمر مجرد مزايدة من الرئيس ترامب في طريقه لتعزيز موقفه في الانتخابات الرئاسية القادمة، أم أن ترامب يريد أن يجعل من طالبان شوكة وخنجر في خاصرة داعش التي تسعى حثيثا في العامين الأخيرين لتنقل مقر قيادتها إلى الأراضي الأفغانية؟
الشاهد أن هناك أصواتا عديدة تمضي في تحليل المشهد الأخير بعضها لا سيما من صقور اليمين الأمريكي يرفض الاتفاق ويرى انه حالة استسلام لطالبان ذات التاريخ الإرهابي، وكيف للأمريكيين أن ينسوا أو يتناسوا انها كانت الخلفية اللوجستية التي انطلق منها رجال أسامة بن لادن نهار الحادي عشر من سبتمبر 2001 ليهدموا البروج الأمريكية المشيدة ويسقطوا نحو ثلاثة آلاف قتيل في مشهد لم تشهده الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن بيرل هاربور وحتى الساعة.
لكن على الجانب الآخر هناك من يرى أنه حان الوقت لإنهاء أطول حالة قتال أمريكي خارج البلاد استمرت لـ19 عاما، ما يعني أن مواليد عام غزوتي نيويورك وواشنطن بحسب زعيم القاعدة، قد باتوا جنودا يقاتلون الان على الأرض هناك.
وعند الداعمين لاتفاق ترامب مع طالبان كذلك انه ربما يكون هذا الاتفاق افضل اتفاق يمكن أن تخرج به الولايات المتحدة الأمريكية دون أن تنتظر جيلا آخر، فقد تم تفويت فرص ماضية لإبرام اتفاق، وأصبح الوضع فقط أكثر سوءا بالنسبة للولايات المتحدة بدلا من أن يتحسن.
الذين يتطلعون لأن يمضي الاتفاق قدما مع طالبان من امثال «جاريت بلانك» المبعوث الأمريكي السابق إلى أفغانستان في زمن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما يرون انه كان للأمريكيين ذات يوم نفوذ اكبر في شرق آسيا عامة وفي الداخل الأفغاني خاصة، وكان من الممكن التوصل إلى اتفاق أفضل في أي مرحلة قبل اليوم، ولم تفعل أمريكا ذلك لأنها تصورت انها صاحبة حدود لا تمد ولا تسد، الأمر الذي أظهرت الأيام عدم صحته، وعليه فانه ربما يكون اتفاق الغد أسوأ من اتفاق اليوم.
هل يمكن لهذا الاتفاق أن يثبت وأن يكون وسيلة لتعزيز السلام بين الحكومة الأفغانية الرسمية التي تقف واشنطن بجانبها منذ نحو عقدين من الزمن، وبين طالبان من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الولايات لمتحدة الأمريكية وبين طالبان؟
يحار المرء في الجواب سيما إذا توقف أمام تصريحات الرئيس ترامب، وهو الرجل المعروف بتقلب مواقفه ما بين الليل والنهار، فقد أشار في معرض حديثه عن الاتفاق إلى أن القوات الأمريكية كانت تقتل الإرهابيين في أفغانستان «بالآلاف»، والان حان الوقت لشخص آخر للقيام بهذا العمل وستكون طالبان، وقد تكون دولا محيطة».
ما الذي يفهم من التصريح السابق؟
أغلب الظن يفيد بأن ترامب لا يقيم وزنا بصورة أو بأخرى للوضع الداخلي الأفغاني، ولا للتوازنات الاستراتيجية بين الأطراف الأفغانية المتناحرة من بضعة عقود، بقدر ما يهمه ان يجد «متعهدا»، أو «وكيل»، يرفع عنه عبء قتال الإرهابيين، من الدواعش أو القاعدة أو أي جماعة أخرى تسعى لان تجعل من أفغانستان موقعا وموضعا لها.
أضف إلى ذلك قوله: «اعتقد أن طالبان تريد فعل شيء لإظهار أننا لا نضيع الوقت»، ملوحًا إلى إمكانية الرجوع في الاتفاق قائلا: «إذا حدثت أشياء سيئة، سوف نعود بقوة مثلما لم يحدث من قبل».
الحديث عن السلام بعد هذا الاتفاق يستدعي استعادة ما صرح به الممثل الأمريكي الخاص لأفغانستان «زلماي خليل زاد»، والذي قال «لقد وقعنا اتفاقا مع طالبان يحقق أهداف الولايات المتحدة، ويضع أفغانستان على مسار السلام».
هذا التصريح جعل الكثيرين يتساءلون وجلهم مخلصي التساؤل والبحث عن الجواب هل ما نراه هو اتفاق سلام يسعى لان يستتب الأمن في الداخل الأفغاني قولا وفعلا، أم أن الأمر مجرد خطة للولايات المتحدة لتتمكن من الخروج من أفغانستان؟
يكتب الصحفي الأمريكي «ديفيد غي سانكر» في صحيفة النيويورك تايمز الشهيرة، ما يجعلنا نعتقد في أن الاهتمام الأمريكي الكبير والحقيقي يتمثل في الخلاص من هذا العبء المزمن المسمى أفغانستان، بعدما كانت شهوة قلب بوش الابن ان تخوض بلاده حرب جديدة بالقرب من الروس والصينيين.
وعند الكاتب الأمريكي عينه أن ترامب يدرك أن الناخبين مهتمون بأمر واحد: وضع حد للمشاركة في حرب أنهت عامها الـ18 وتنطوي على أهداف متغيرة، ولم يدع الرئيس الأمريكي ترامب مجالا للشك في أن أولويته في أفغانستان، هي معاهدة سلام تؤهله لادعاء الوفاء بوعوده بسحب القوات الأمريكية من هذا البلد، لكن الكثيرين من مساعديه السابقين في مجلس الأمن القومي يقولون انه أقل اهتماما بسلام فعلي في تلك البلاد، وهذا ما يثير مخاطرة كبرى على ترامب هناك.
المخاوف الحقيقية تجاه مستقبل أفغانستان تسترجع ما حدث عام 1973 حين انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من فيتنام، وتركت الحلفاء في مازق كبير، وهو الأمر نفسه الذي يمكن أن يتكرر بالفعل إذا وجدت حكومة كابول نفسها في مواجهة طالبان بمفردها، إذا انتكست على الاتفاق الاخير، وساعتها حكما سوف تكون عملية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مسألة شاقة ومربكة قد لا يقوى عليها ترامب، وتفقد واشنطن حضورها الذي كان وهذا أمر لفت إليه الجنرال «دافيد بترايوس» الرجل الخبير والمحنك في أعمال القتال العسكري قائد القوات الأمريكية سابقا في العراق ومدير الاستخبارات المركزية الأمريكية من قبل.
ولعل أفضل ما قيل في إشكالية الاتفاقية هذه هو ما ورد عبر وزارة الخارجية الإيرانية في بيان لها أشارت فيه إلى أن: «السلام المستدام في أفغانستان يتم عبر الحوار الأفغاني الأفغاني وبمشاركة القوى السياسية المختلفة بما فيها طالبان».
البيان الإيراني يشير إلى جزئية جوهرية بالفعل وهي أن دول الجوار الأفغاني ينبغي أن تؤخذ ملاحظاتها بعناية وهذا أمر مهم بالفعل، إذ لا يمكن على سبيل المثال أن يتم اهمال النظرة الروسية لما يجري على الحدود معها، أو إغفال رأي الصين وهي الدولة والقطب الآسيوي الأكبر، وقد بات لها حضور فاعل هناك، عطفا على إيران نفسها أكثر دولة تأثرت بما جرى على أراضي أفغانستان العقدين الماضيين وهي أيضا الدولة التي سوف تتأثر مستقبلا بالسلم أن تفشى في الداخل الأفغاني، وبالحرب إذا عادت تضرس بأسنانها أبناء الشعب الأفغاني.
ليس خطأ أن تسعى الدول الكبرى إلى تعظيم مصالحها، فهذا أمر يمكن للمرء ان يتفهمه، لكن النظر إلى الآخرين بوصفهم بيادق على رقعة الشطرنج الدولية أمر لا يجلب سلام، ولا ينشر طمأنينة لا في الحال ولا في الاستقبال. النوايا الحسنة فقط هي التي تستدعي السلام من الأفق البعيد.