mahmood2
mahmood2
أعمدة

القصة كتأثيث للفراغ - قراءة في مجموعة «أحلام معلقة» لحمود سعود

08 مارس 2020
08 مارس 2020

محمود الرحبي -

فازت المجموعة القصصية المعنونة بـ«أحلام معلقة على جسر وادي عدي» للقاص حمود سعود بجائزة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء. وهي جائزة بلا مراكز. تفوز مجموعة واحدة أو كتاب - من كل صنف من صنوف المسابقة- فيكون بذلك الأول بين جنسه في ذلك العام.

امتاز أسلوب حمود سعود في كتابة نصوصه القصصية بما يمكن تسميته التداعي الحرّ أو الكتابة القطعية( الكولاجية) حيث تتجاور مجموعة من الثيمات لتكوين جسد النص؛ الذي يبدو مترنّحا، مشتتا في البداية ولكنه لا يلبث أن يستقيم وهو يستمد وقود طاقته مما ترى العين المجرّدة وما تستحضره الذاكرة، ومن القراءات والصور وتداخل مجموعة من المقولات البصرية واللغوية. فيُجاور بذلك التاريخ معالم الواقع المعاش، وقراءات الكاتب مونولوغه وأسئلته الداخلية، لينسج سبيكة سردية ممتعة، يتابعها القارئ وهو في كل مرة ينفتح على ضفة جديدة؛ إما معلومة تاريخية أو مجسم محلي يتم استنطاقه والوقوف أمامه، مثل دوار الكرة الأرضية في العامرات، حيث نرى هذه المرة الكرة الأرضية مرمية على قارعة الطريق مع المهملات والمتلاشيات، تنتظر من يلتقطها. وفي ذلك حمولة رمزية أرادت القصة أن توصلها بتجل فني إلى القارئ.

من ميزات مجموعة «أحلام معلقة على جسر وادي عدي»، إذن، استنطاقها الواقعَ الصّامت، من جمادات وحيوانات وسيارات خربة وأسوار ومقابر «في هذه المدينة التي تستقبلك في أول دوار فيها بمقبرة واسعة تضمّ كل أموات العاصمة، والمهاجرين الذين يموتون في العاصمة ولا يملكون مالا لجنازة ولا لتابوت يحملهم في طائرتهم إلى بلدانهم، وتودعك بمستشفى مجانين. كيف يمكن لأهل هذه المدينة أن يضحكوا، وهم محاصَرون بين موتى ومجانين؟) السارد هنا يؤثث هذا الفراغ القاحل بين مقبرة ومستشفى للمجانين، وذلك باستدعاء تفاصيل من الذاكرة وأخرى من الراهن المونولوجي الذاتي، عبر إلقاء الأسئلة والتأملات وأصداء القراءات:«أخذ يحك أنفه، أنفه لا يشبه أنف جوجل، ويفكر في بداية مختلفة وسلسلة لجو ممل وضجر لمدينة محاصرة، تذكر أنه عندما فتح شاشة الحاسوب كان يحمل في رأسه فكرة أخرى، وهو ينزل على السلم من الطابق الثاني إلى قبوه الذي لا يشبه بكل تأكيد قبو دوستويفسكي» وإذا كان أول ما يلفت في تجربة حمود سعود هو هذا الشعور بالضجر الصارخ والفراغ، انعكاسا لفراغ الواقع والمعاش، إلا أنه يسعى لأن يخفف من وطأته ويملأه بكل ما يمتلك من طاقة سردية عبر تقنية التداعي الحر «هل الضّجر فعل ينبثق من جو المدينة أم من روح الكائن؟». و ثمة ميزة أسلوبية أخرى، وهي استنطاق السواكن والجمادات والحيوانات. فيقف السارد مطولا أمام دوار الكرة الأرضية، التي تسقط من مركزها في الكون إلى أشلاء الطريق، ولكنّ الخريطة كانت واقفة أمام ما يؤثثها:» رأيت سرب طيور يحط فوق مجسم الكرة الأرضية، وعندما أوقفت سيارتي واقتربت محاولا البحث عن السرب الذي دخل إلى الغابة، وضعت يدي على ساحل إسبانيا».

وفي قصة «خوف» يضعنا في جو مفعم بالريبة والحذر، قلق كافكويّ من وقوع شيء ما، قلق يعتري مختلف الشخوص والتفاصيل ويهزها: «خافت الممرضة أن يسقط المقص الحاد من يدها وهي تسلمه للطبيب ليقطع حبل السرة.. خاف المقص من الصدأ.. خافت الأم على طفلها في المطبخ.. خاف الطفل أن يذهب عنه باص المدرسة.. خافت إدارة المدرسة أن يتأخر الطلاب.. خاف معلم الرياضة أن يذبل النشيد في الصباح.. خاف النشيد أن يقلق العلم الذي يرفرف في وسط الساحة، ففر هاربا».. قد لا تجد بالضرورة في مجوعة حمود سعود «أحلام معلقة على جسر وادي عدي» حدثا واضحَ المعالم مكتمل البنيان، إذ أن الحالة هي من يتسيد مقود السرد وذلك عبر الوصف المتدفق والمترنح، لكنْ رغم ذلك لا تعدم أن تجد آثار معنى ما أو حالة هي، في الأعم، إنسانية مفتوحة الحدود، تستند إلى التأمل، حيث لا يعتمد كثيرا على التتابع المنطقي للحدث، بل إن المعنى - في معظم القصص الطوال - متجرد أو مُتلاشٍ يصعب القبض عليه. المعنى يفرّ منك كلما أوشكت على الاقتراب منه. لذلك فإن قصص المجموعة في معظمها تعتمد على قوة اللقطة والعبارة، إذ تُشكل اللغة، بحمولتها الشعرية، رداء جماليا أساسيا لهذه الحزمة القصصية.