أفكار وآراء

90 دقيقة.. هل تكفي لتحقيق العدالة؟

01 مارس 2020
01 مارس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

يتعرض اللاعبون في أي صنف من صنوف المباريات والأنشطة الرياضية إلى فحوصات دقيقة خوف تعاطيهم المنشطات، وقد يضحي البعض منها بتاريخه الحافل بالإنجازات فقط؛ لأنه اكتشف أنه متعاط للمنشطات، وأصبحت «خيانته» للأمانة التي ائتمنها به جمهوره العريض على كل لسان، يحدث هذا الفحص الدقيق، حتى لا يقوى فرد على آخر، أو فريق على آخر.

سألت نفسي مرة، ولعلكم تساءلتم أنتم أيضا، عن سبب العصبية المبالغ في تطبيقها أو تمثيلها بعد نهاية كل مباراة، أو حتى أثناء لعب الفريقين، وحالات الشد والجذب، وانتفاخ الأوداج، وارتفاع الضغط، والسكري، وحدوث حالات الإغماء، وما يخرج عن هذه التفاعلات النفسية الخاصة إلى مشروع من العراك، والصدام، والذي -في كثير من الأحيان- ينتهي إلى الموت، حيث الكارثة الكبرى بعد هذه الـ(90) الدقيقة التي جمعت الفريقين، وجمعت الشعبين، أو شعوب الأرض قاطبة، كما هو الحال في مباريات كأس العالم؟

حيث يحمل حكم المباراة كل الإخفاقات التي تحدث أثناء المباريات، وينعت بأسوأ الألقاب، وبالسباب، والشتائم، كل ذلك لأنه لم يكن منصفًا، ولم يكن عادلا بما فيه الكفاية، من وجهة نظر كلا الفريقين.

تأتي التقديرات لعدد حضور مباريات كرة القدم، أو غيرها من الألعاب الرياضية بعشرات الآلاف، أو بالمئات على أقل التقديرات، وهذا العدد الهائل من البشر، يجمعون كلهم على مبدأ واحد، وهو الفوز، وهذا الفوز وفق تقييم هذه الجموع الغفيرة لن يتحقق إلا بتطبيق العدالة المطلقة بين كفتي ميزان الفريقين المتنافسين، ويبقى هذا مطلب الكل بلا استثناء، إلى نهاية المنافسة، ولن يرضى أي فرد حاضر من هذه الجموع أي إخلال من شأنه عدم تطبيق هذه العدالة المطلقة، وإلا «قامت القيامة» كما هو المثل، وأقلها العودة إلى المنازل، وهناك حالة من عدم الرضا على سير المباراة التي حدثت بين الفريقين، وقد تخيم الحالة التفاعلية للمباراة على من حضر الملعب، أو لم يحضر فترات طويلة في حياة الناس، وتكون حديث المجالس، واليوم حديث وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تصل حالة عدم التوافق في الآراء إلى السب والشتم، والخصام بين أقرب العلاقات التي تجمع بين أفراد المجتمع الواحد، بغض النظر عن تأزم العلاقات بين الدول في بعض الحالات، بسبب التصرفات الطائشة التي تحدث بين مشجعي الفريقين.

يذهب الطرح هنا أكثر إلى (ثيمة) تحقيق العدالة، وهذا الإجماع الكبير الذي يتأصل بين كل هذه الجماهير الغفيرة التي تحضر المباراة، فالجميع بلا استثناء يطالب بتحقيق العدالة المطلقة في التحكيم، ولا يتنازل أي فرد حاضر هنا عن أي هفوة تحدث، قد يرتكبها أحد اللاعبين من أحد الطرفين على الآخر، وسوف يحملون حكم المباراة كامل المسؤولية إن هو أخفق في تطبيق العدالة عند مجاوزته خطأ من شأنه أن يغير من النتائج، فالظلم هنا مرفوض جملة وتفصيلا، ومتى حدث غير ذلك، فإن الصدام واقع بين الطرفين بلا جدال، والمقاربة في هذه المسألة تطرح التساؤل التالي: هل (90) دقيقة كافية لتحقيق العدالة؟

ففي الدقائق القليلة هذه من عمر المباراة يطالب هذا العدد الكبير بضرورة تطبيق العدالة المطلقة، ولن يتنازل أي طرف من طرفي الفريقين عن ذلك، في حالة من الإجماع الشعبي الكبير؛ لأن من يحضر هذه المباريات، هم ممثلو أبناء المجتمع كلهم، من الأعمار الصغيرة، وانتهاء بالأعمار الكبيرة، ومن مختلف المستويات المهنية، والثقافية، ومن المنظرين في الشأن الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي، ومن أصحاب المواقف والآراء في مختلف شؤون الحياة العامة في أي مجتمع، والمفارقة التي ترصدها هذه المقاربة هي حالة التناقض التي يعيشها الفرد في كل هذه المستويات الاجتماعية، والثقافية، في مطالبتهم بتحقيق العدالة، بينما المجتمع الذي يمثلونه يضج، ويتصادم بحالات الظلم، والتسلط، وشراء الذمم، والخيانات، والحسد، والبغضاء، والحنق المتأزم، وغيرها من الممارسات غير السوية، وهذه حالة بشرية بامتياز، لا خلاف عليها، فلما تجمع هذه المجاميع البشرية على ضرورة تحقيق العدالة في هذه اللحظات القصيرة الموقوتة بـ(90) دقيقة فقط لموسم كامل، بينما لا تستسيغ ذلك في أعمارها الممتدة طوال سنوات العمر كلها، حيث تخرج هذه الصورة في كثير من ممارساتها اليومية؟

المباريات حالات متكررة طوال العام، ومع ذلك لا ينظر إليها على أنها صورة نمطية لممارسة هذا النشاط، بمعنى على الرغم من هذا الحضور المكثف إلا أن جمهورها يزداد يومًا بعد يوم، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم تؤثر على هذا الحضور، كما أثرت على أنشطة الفرد المختلفة في حياة المجتمع ككل، وفي كل هذه اللقاءات المكثفة طوال العام، لا تزال الجماهير تجمع على ضرورة العدالة في التحكيم بين أي فريقين متنافسين، بينما يتم تجاوز هذه العدالة في تطبيقها في كثير من أنشطة الحياة اليومية، على اعتبار أن هذه الأنشطة هي أنشطة متكررة، وبالتالي لا يستدعى في كل ممارساتها ضرورة البقاء على عدالة التعاطي بين أي فردين تجمعهما علاقة ما، ويقال لك أن ذلك أمر عادي لا يحتاج إلى تأصيل تطبيق العدالة في كل شيء، فهذه ممارسات بشرية غير متوقفة، فعادي أن يتخللها الظلم، والكذب، وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء، فديناميكية الحياة اليومية لا تستدعي التوقف لتطبيق العدالة في كل صغيرة وكبيرة، ويمكن قياس هذه الصورة على كثير من أنشطتنا اليومية التي نقوم بها ونتعاطى بها مع الآخر، قرب هذا الآخر أو بعد، في صورته الرسمية، أو صورته الاجتماعية كالنسب والصداقة، أو إجماع على مصلحة ما، من مصالح الحياة اليومية.

ما أرقبه في هذه المقاربة أيضا أن هناك نزيفًا ماديًا ومعنويًا؛ غير منكورين؛ في أي لقاء في هذه المباريات يسخر لعدد محدود، قياسًا بعدد أفراد المجتمع، ولفترة محدودة من فترات السنة أو الموسم، وتجرى الاستعدادات غير العادية، وتسخر كل الوسائل للنجاح، ولا تترك أية مثلبة من شأنها أن تشير إلى أي نقص من شأنه أن يؤثر على الصورة العامة للحدث، كل ذلك لأجل خاطر الـ(90) دقيقة التي يطالب فيها الجميع بضرورة تطبيق العدالة، وبعد أن ينفض السامر يعود كل فرد من ذلك الحشد المهيب ليمارس كافة أنشطته كما كان قبل أن يذهب لحضور مباريات كرة القدم ويطالب بضرورة تطبيق العدالة المطلقة، يعود وقد أكل حق هذا، وظلم هذا، وسرق حق ذاك، ولا يستبعد أيضًا أن يخطط للانقضاض على فريسة أخرى لأخذ حق ما بدون وجه حق، وتناسى ما طالب به قبل قليل من ضرورة تحقيق العدالة، وكأن كل ما حصل في ذلك الحدث المهيب بتفاعلاته المختلفة شيء لم يكن، وأنه مجرد تفريغ شحنات نفسية تراكمت لذلك الحدث فقط، وانتهى بها الحال في ذلك الحدث، وفي ذلك المكان المحصور بجدرانه الأربعة! إنها حالة إنسانية غريبة، ومربكة، وتظل ساقطة من حسابات الإنسان كإنسان، شيء صادم بالفعل.

يتعرض اللاعبون في أي صنف من صنوف المباريات والأنشطة الرياضية إلى فحوصات دقيقة خوف تعاطيهم المنشطات، وقد يضحي البعض منها بتاريخه الحافل بالإنجازات فقط، لأنه اكتشف أنه متعاط للمنشطات، وأصبحت «خيانته» للأمانة التي ائتمنها به جمهوره العريض على كل لسان، يحدث هذا الفحص الدقيق، حتى لا يقوى فرد على آخر، أو فريق على آخر، فلا بد للجميع أن يكونوا على مقياس واحد من الكفاءة والنشاط، والقدرة على العطاء، حيث لا مجال هنا للاستقواء بطرق معوجة، وإلا ضاعت العدالة المطلقة لتحقيق الأهداف الحقيقية التي لا مراء حولها، ولا خلاف، فالعدالة هنا هي التي تفرض التنافس الحقيقي والشريف، بين جميع المتنافسين، وليس بسلك طرق معوجة لتحقيق غايات الفوز، فما أجمل هذه الصورة التي يجمع فيها كل هذه الجموع البشرية لتحقيق عدالة مطلقة ترضي الجميع، وبلا استثناء؟

حالة مربكة بالفعل عندما يكون الفرد نفسه يطالب بالعدالة المطلقة، وهو في الوقت نفسه يكون عائقا أمام تحقيق العدالة المطلقة في كثير من شؤون حياته الخاصة، وفي شؤون مختلف العلاقات التي تربطه بالآخر، فهل هذا عائد إلى انفصام في الشخصية، وهل بين تحقيق العدالة، وعدم تحقيقها هي تلك الـ(90) دقيقة فقط، إنه لشيء يبعث على الاشمئزاز، ويوسم البشرية في كل محطاتها بالخزي والعار، وسوء المنقلب.