ghada
ghada
أعمدة

أزرق... رمادي الحلم والموت

29 فبراير 2020
29 فبراير 2020

غادة الأحمد -

«لم تكن الياسمينة الشهيدة الوحيدة في ذلك الحلم، بل كان صوته الذي خرج منه لاهثاً، وسقط على مسافة قريبة مذبوحاً بسكين، وجثتي كانت هناك أيضاً، بكامل أناقتها، معلقة بالقرب من جسدْ على كتف تينة عتيقة!.

وحده صوتي المبحوح مازال هناك خارجاً من الحلم، وهو يصرخ باسمه مرات ومرات، مذبوحاً مثلي بالحرب التي كانت أقرب من قذيفة عابرة.

جسدي الجثة مازال يمارس حياته، بينما غادرتني روحي، لتبقى معه مذ أخبرني أحدهم أن ذلك الذي وعدني صوته بزيارة لحلب ضاع جسده المذبوح في مكان ما من حلب!».

تصرُّ الكاتبة السورية غفران طحان على الحلم هرباً من واقع أشبه بالخيال في قسوته وسورياليته ودمويته.

في مجموعتها (أزرق... رمادي) الصادرة حديثاً ضمن سلسلة الإبداع العربي التي يرأس تحريرها الأديب سمير درويش. عن الهيئة العامة المصرية للكتاب 2019 وضمت اثنتين وعشرين قصة قصيرة في (115 صفحة من القطع المتوسط).

تحكي القصص عن الإنسان بكامل تعقيداته، وتشوفاته وشذوذه وتجمع بين الواقعي والخيالي والفنتازي، في اختزال رمزي لواقع الحرب الذي نحياه في سورية منذ عقد من الزمان في جميع مدنها وقراها وخصوصاً ما يجري في حلب مدينة «القاصة»، تحكي عن الغربة التي فرضت على الكثيرين، وعن الخوف والهلع من المجهول الذي ألقوا بأنفسهم إليه هرباً من موت... فكان الموت ينتظرهم على الضفة الأخرى من الحياة أو أثناء عبورهم البحر:

«وقفت على قدمي... ومشيت... مشيت بين أجساد كثيرة مرمية على شاطئ البحر لوهلة ظننتها مجموعة من الأسماك سئمت بحرها الغاضب وقررت الانتحار على شاطئه هرباً... ولكنهم كانوا بشراً.. بل جثثاً، وكأن البحر نبت جثثاً لأناس أعرفهم، أو لا أعرفهم».

والناجون فقط من يحاولون رسم بدايات جديدة بعيداً عن هذه الحرب ولكن هيهات فالمخاوف ترافق حياتهم على من تركوا من أهل وأصحاب: «مذ حملنا أرواحنا بعيداً عن بلاد الحرب، وقلبي لا يطمئن لأي تأخير، كنت رغم كل ما يجري في حلب أجد ألف مبرر منطقي، وآخر يستفز قلبي خوفاً، وبسبب ذلك الخوف الضئيل قررنا أن نترك مدينة تسكننا، ونأوي إلى الأمان.»

حين تنتهشني الغربة، فأنسل مني إلى عالم غارق بالصور، صور حلب، أندس في أخبار الجميع، أتأوه معهم، أعود إلى حلب، وأمارس كل طقوس الخوف، أرتعد من قذيفة هاون تمر بالقرب من بيتي هناك، وأفور غضباً من برميل قد يسقط على بيت أهلي في الطرف الآخر... قلبي الذي قسّم كحلب كان يتأرجح في خوفه يميل مع الموت في ميزانه الذي لا يرحم ولا يستكين... كنت أطلق مع كل صورة السباب على الجميع. أمسك بالهاتف، وأحاول الاطمئنان على أهلي، يتوقف قلبي لحين أعرف أن الطائرة ذات الحمل الجحيمي قصدت آخر حارتهم، ولم يُصب أحد أعرفه بأذى.. أعود للتصفح فأرتجف من أخبار الخطف والموت والغلاء والجنون وانعدام كل شيء وأحمد الله أنني هربت معه، ولكنه الحنين يفتت روحي».

عنصران هامان برزا في هذه المجموعة هما: الموت والحلم حيث يبدو عنوان المجموعة (أزرق.. رمادي) معادلاً موضوعياً للحياة التي تتأرجح بين «الحلم والموت» في ظل حرب لم تنته بعد، ولا زال السوريون يعيشون عذاباتها.

استخدمت الكاتبة غفران طحان لغة دقيقة ورشيقة تعبر عن مراميها، كما اتسم أسلوبها بالاقتصاد بعيداً عن المباشرة إذ غالباً ما تميل الكاتبة إلى التصوير والتخييل والإدهاش واللاواقعي لتوصل إلى القارئ ما تريد معنىً وشعوراً.

لم تخضع القاصة سردها لشروط فنية قاسية ولكنها كثفت الحدث على حساب بعض عناصر القصة، فالحرب والموت والحلم أحداث أخلصت لها في سردها، وجعلتها وسيلة لتحقيق الأثر المرجو في نفس المتلقي: «جرائمي الناقصة كلّها تجدد حياتها فيَّ، وعقلي العاق البعيد يرسم خططاً أخرى..أراه بين حين وآخر على شاشات التلفزة، يمضي هو والسيد قتل في أعمالهما.. ومازال الموت يضحك منهما معاً!»

«أزرق... رمادي» مجموعة قصصية مدهشة أبطالها السوريون المبتلون بلؤم الحياة والواقعون في شرك الحرب وبين أنيابها، تعد المجموعة الثالثة للقاصة غفران طحان، بعد مجموعتين: الأولى بعنوان «كحلم أبيض» صدرت عن دار تالة بدمشق 2009، والثانية بعنوان: «عالم آخر يخصني» صدرت عن دار نون للطباعة والنشر بحلب عام 2014.

كما صدر للكاتبة «حلم يغفو على مطر» عام 2016 عن دار أرواد في طرطوس وهو كتاب نثري مفتوح على القصة والخاطرة والتأملات».

غفران طحان موهبة استثنائية في القص السوري تمتلك أدواتها المعرفية والسردية، استطاعت أن تلفت الانتباه إلى موهبتها بكل ثقة وتحجز لها موقعاً بين الساردات حفيدات شهرزاد... بما تمتلكه من موهبة فنية ولغة شعرية مكثفة.