أفكار وآراء

حكومات الكفاءات بين قوى الشارع والنخب السياسية

29 فبراير 2020
29 فبراير 2020

د. عبد العاطي محمد -

في واقعنا العربي المعاصر صنفان من الناس، أحدهما مولع بما يجري في الشارع وما يرشح عنه من تطورات يومية، وآخر عينه دائما عما تفرزه الآلة الحكومية من حلول للخروج من الأوضاع المتأزمة هنا أو هناك.

ولا أحد يدعى أن أيا منهما هو الذي على صواب وأن غيره على خطأ، ولا أنهما على وفاق، لأن حمى التغيير المستعرة في المشهد العام المعاصر، لا تسمح بذلك في حقيقة الأمر.

ومع ذلك، وبرغم هيمنة الشق المظلم من الصورة فإن ما ليس عليه خلاف، هو وجود فريق ثالث يسمى بالكفاءات، تتجه إليه الأنظار على أنه المنقذ الذي يستطيع أن يرضي هذا وذاك، ضمن شروط معينة، لقيادة المسيرة الوطنية نحو النهوض من التردي ووضع البلاد على طريق الاستقرار.

بداية ودون الاستغراق في سرد تجارب التاريخ، ليس الاعتماد على الكفاءات استثناء من مختلف تجارب الحكم العربية، بل ليس من المبالغة القول إنه كان دائما هو الصيغة الرسمية التي تلجأ لها السلطات لقيادة الدولة منذ مرحلة الاستقلال الوطني، لأسباب عديدة مفهومة منها متطلبات التنمية والاستقرار تقضي دائما الاعتماد على أهل العلم والخبرات بعيدا عن توجهاتهم السياسية بوصفهم أهل اختصاص وأضيف، في الأعراف. أنهم أهل نزاهة وطهارة اليد. وحتى عندما كان من الضروري وضع أهل السياسة في الاعتبار، كان يجرى تطعيم تشكيلات الحكومات المختلفة باختصاصيين أو كفاءات وبرجالات السياسة من الأحزاب أو غيرها فيما كان يسمى بحكومات كفاءات سياسية.

مما عزز من استمرار هذه التقاليد في تشكيلات الحكومات العربية على مدى الزمن الماضي، أن السلطات المتعاقبة وتحت دعوى البحث عن مخارج سريعة من المشكلات الحياتية المختلفة اجتماعية كانت أم اقتصادية تتعلق بحسن إدارة دولاب الدولة، اعتادت اللجوء إلى الكفاءات والسياسيين في خليط مشترك. والملفت أنه على مدى الزمن لم يكن لما يمكن تسميته بالشارع السياسي دور في القضية برمتها، لأن الجماهير العريضة كانت قد اتخذت قرارا غير مكتوب من جانبها هو ألا تزج بنفسها في الأمر برمته وتجعله حقا مطلقا لما هو هناك في السلطة، فقط كانت تتأمل مع كل تجربة أن يكون قد تم حسن الاختيار. وما لا يمكن إهماله أن الشارع السياسي ترسخ لديه مع الزمن الإحساس بأنه لا يقدر على أن يفرض صيغة معينة لتشكيلة حكم جديدة إما لأنه غير منظم سياسيا أو لأنه يضم تشكيلة متنوعة للغاية ممن يرون في أنفسهم أنهم أحق بتمثيله في تركيبة الحكم، تشكيلة لا تستطيع الاتفاق على أشخاص بعينهم ولا على برنامج معين . وعزز من كل ذلك وجود تراث من الثقة المتزايدة في حكومات الزمان المختلفة نتيجة النجاحات المتواصلة لعديد الحكومات العربية، ومن ثم فلا حاجة لمضايقة أهل الحكم في اختيار ما تره هي حكومات تعمل لصالح الناس والوطن.

إلا أن موجات التغيير التي ضربت المنطقة العربية منذ 2011 من الجهات الأربع وضعت موضوع السلطة الحاكمة في صدارة الأحداث وبصورة خلافية فجرت حالة من الخلافات والانقسامات وعدم الاستقرار، بل والدخول في وضع لم يعتاده المواطن العربي البسيط منذ مرحلة الاستقلال هو استخدام العنف إلى حد المواجهات الدموية، ليصبح الصراع على شكل السلطة وسياساتها الحاضرة والمستقبلية حديث الناس صباح مساء ومطلبا أساسيا للتغيير. وبعد أن كانت لدينا جهة واحدة تحتكر هذا العمل، أصبح هناك شارع سياسي يجد من يتحدث باسمه ويقود فعاليات كبرى للضغط في اتجاه فرض صيغة معينة للحكم وأشخاص بعينهم، هذا بجانب سلطات لم تسقط بعد، برغم كل ما جرى من مشاهد فوران وقلاقل أمنية لا حصر لها، استطاعت أن تتماسك وتفرض نفسها ليس فقط على أنها شريك في التوصل إلى شكل وطبيعة السلطات الجديدة، وإنما على أنها الجهة التي تمتلك عوامل التغيير المشروعة التي يتم من خلالها والقادرة على إعادة بناء النظام السياسي أخذا في الاعتبار ما يرشح من قوى الشارع السياسي الذي بدا مستجدا في الحقيقة على الحياة السياسية العربية.

بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات، وتلك فترة كافية في تاريخ الشعوب والحكومات، لتقييم تجارب تغيير عديدة اتسمت بعمق التحولات وهزت تراث مرحلة الاستقلال الوطني كله بما فيه من نجاحات وإخفاقات، أصبح العنوان الواسع الانتشار ليس هو إسقاط النظام، وإن ظل محببا عند الكثيرين ممن يقودون الاحتجاجات كل يوم في أكثر من موقع ومكان، وإنما إصلاح النظام، وكأن الحكمة قد نزلت من السماء رحمة بشعوب المنطقة التي دفعت ثمنا باهظا لم يسبق له مثيل على مدى تاريخها الطويل.

ضمن الإصلاح تبلور شعار المرحلة الجديدة في كلمات بسيطة هي «معا شعوبا وحكومات إلى مشاركة لا مغالبة في صياغة نظام سياسي جديد متطور»، يستفيد مما تم التوصل إليه كدروس مستفادة من زلزال ما كان يسمى بالربيع العربي. اللاعب الرئيس هو السلطات الحاكمة والشارع بقواه الجديدة هو المراقب، وأما آلية الإنقاذ فهي العودة إلى خيار الكفاءات المدعوم سياسيا من الشارع السياسي بغض النظر عن تعقيدات تركيبة هذا العنصر الجديد الذي فرضه ما يمكن تسميته بالموجة الثانية من التغيير، وفى هذا الصدد لدينا في العراق ولبنان وتونس والسودان مؤشرات لا يمكن إهمالها للدلالة على مسار الإصلاح الوليد. دلالات تخضع للتحليل كأمثلة للتعبير عن الإصلاح، لما بينها من قواسم مشتركة، وإن كان هذا لا يعني بالضرورة أنها ذات قواعد وآليات واحدة بالمطلق، فبكل اليقين لكل تجربة مذاقها وقدراتها على التفاعل مع الأحداث لأن الشعوب لها طابعها الخاص في نهاية المطاف.

لقد نتجت هذه المشاركة لا المغالبة عن عوامل عديدة أفرزها الواقع المعاش، مما يجعلها تطور له مغزاه الحاسم الذي يفصل بين قديم وجديد موجات التغيير العربية.

من هذه العوامل أولا أنه وبعد سنوات من التفاعل السياسي والعنيف دمويا أيضا بين مختلف من تصدروا المشهد، بات مقنعا للكل استحالة أن ينتصر فريق على آخر. صحيح أتيحت عديد الفرص لهذا الفريق أو ذاك، ولكنه لم يمتلك القدرة على أن تظل متاحة بالنسبة له ولا بالطبع أن يقود مسيرة التغيير وحده.

وثانيا يقرر خبراء علم السياسة أنه في كل التجارب البشرية تتصارع النخب أيا كان لونها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وعندما يتعقد المشهد العام بحيث لا يجعل لأي منها إمكانية إحراز الانتصار على الآخرين، فإنها تتراجع للحفاظ على ما حققته من مكاسب ولو قليلة لأن هذا أفضل من أن تخرج من السباق خالية اليدين.

وثالثا أن العامل الاقتصادي كان له أوقع الأثر في توجيه مسار الأحداث نحو الإسراع بتشكيل حكومات كفاءات وطنية مقبولة من الشارع السياسي. ولا تحتاج الأوضاع الاقتصادية المتردية إلى عناء الخوض في التفاصيل ولا إلى حاجة الشعوب إلى الخروج منها أمس وليس اليوم أو غدا، ومن أول مهام حكومات الكفاءات التعاطي مع كل ما هو متاح من سياسات لإنقاذ البلاد من الداعيات الكارثية المترتبة على استمرار الأزمات الاقتصادية.

ورابعا أن العامل الخارجي قام بدور مختلف قياسا على ما كان عليه في موجة التغيير الأولى.

ومن المؤكد أن ذلك التطور يعد جديدا ووضح تأثيره في إعادة توجيه مسار التطورات إلى تبني الإصلاح لا الثورة من ناحية ودعم فكرة المشاركة لا المغالبة في إعادة بناء السلطة في البلدان المشار إليها سلفا من ناحية أخرى. لقد أدرك العالم الخارجي أن الثورات غير المكتملة مآلها الفوضى لا التغيير المحمود المنشود، ومن ثم فإن دعمه لها يصبح في الاتجاه الخطأ، وبدلا من ذلك فإن الإصلاح هو المسار الأفضل، ولذلك ألقى بثقله خلف كل محاولات تشكيل حكومات الكفاءات التي توالى العمل عليها بدءا من العراق إلى تونس مرورا بلبنان والسودان والجزائر.

وكان ملفتا أن صناديق الدعم الدولي الاقتصادي اشترطت أساسا الإسراع بتشكيل حكومات وطنية موثوق فيها، هي في الظرف المعاصر حكومات كفاءات مقبولة شعبيا من الناحية السياسية. ومن الطبيعي أن يتقاطع موقف القوى الإقليمية مع الموقف الدولي الجديد تجاه مشاهد الموجة الثانية للتغيير، حيث لا تستطيع دول الإقليم أن تصطدم بالموقف الدولي، بل أن تتلاقى معه وهو ما حدث قولا وفعلا. واتصالا بالتحول في الموقف الدولي فإن المؤشرات باتت تنذر بتصعيد خطير بين الكبار حول من سيقود العالم في السنوات القريبة: هل هي روسيا والصين ومن يتحالف معهما، أم الولايات المتحدة ومن يتحالف معها من عواصم أوروبا الكبرى كفرنسا وبريطانيا وألمانيا.

هذا التوجه إلى التصعيد كان بمثابة رسالة إلى أبناء المنطقة ممن يشغلون أنفسهم بمستقبل نظمهم السياسية في الأجل المنظور، بأنه تصعيد يفقدهم التأييد الدولي المعاصر المحدد في دعم إعادة البناء السياسي منهج المشاركة لا المغالبة أو بالأحرى تشكيل حكومات كفاءات مقبولة من الشارع السياسي.

هكذا وبناء على ما سبق فإن تشكيل حكومات الكفاءات المقبولة شعبيا خطوة أولية ضرورية للإنقاذ الوطني من الانهيار السياسي والاقتصادي وبالطبع الأمني، وأما الخطوة الثانية فهي التغييرات الدستورية التي تعكس المستجدات، ثم الانتخابات العامة التي تأتي ببرلمانات تمثل القوى التي أفرزها الشارع السياسي على مدى الشهور الطويلة الماضية، وبذلك تكتمل خريطة الطريق الإصلاحية.