أفكار وآراء

الشبكات والبروج.. من يحكــم العـــالم؟

28 فبراير 2020
28 فبراير 2020

إميل أمين -

من يغير مسار العالم، هل الأفراد أم الدول؟ علامة استفهام عميقة طرحت منذ عقود طوال، وباتت تتردد في عالمنا المعاصر بقوة لا سيما بعد أن بدأت الدولة الحديثة بمعناها ومبناها الويستفالي القديم تفقد حضورها لصالح كيانات وتجمعات دولية عابرة للقارات، اختصمت كثيرا من الرصيد التقليدي للدولة الوطنية، وعليه يكاد القرار الأممي اليوم يتحول من ايدي الجماعة الوطنية ليصب في صالح مجموعات اخرى غير ظاهرة للعيان، حاول البعض قديما أن يقدمها في إطار الحديث عن العروش والجيوش، إلا أن المسألة تبدو أعمق من ذلك كثيرا جدا، إنها متعلقة بما يعرف بالشبكات والبروج، ما هو ظاهر منها للعيان، وما هو خفي عن الأذهان، والمثير في الأمر أن القصة لم تبدأ من زماننا الحاضر بل يكاد الناظر للمشهد الكوزمولوجي أن يوقن بانها راسخة في أجداث التاريخ منذ زمن وزمانين.

احد اهم الذين شاغبوا العقل الإنساني في الأعوام الأخيرة بحثا عن الفعلة الحقيقيين الذين يديرون شؤون الكون من حولنا يأتي المؤرخ الإسكتلندي الأصل الأمريكي الجنسية «نيل فيرجسون» المهموم والمحموم بقصة الإنسان مع الحضارة، وبصورة علاقات الأمم والشعوب بالأنظمة ما ظهر منها وما بطن.

آخر وربما احد اهم أعمال فيرجسون مؤلفه الشيق والذي جاء يحمل عنوان «الساحة والبروج» ويتناول فيه «الشبكات والسلطة من الماسونيين الأحرار إلى فيسبوك».

قبل بضعة أسابيع وعلى صدر صفحات عمان الغراء تساءلنا هل يمكن أن يكون فيسبوك هو الحاكم الحقيقي لعالمنا المعاصر؟

السؤال المتقدم جاء بنوع خاص على هامش توقعات بان تلعب هذه الأداة غير المسبوقة في تاريخ البشرية دورا مهما وحيويا في اختيار الرئيس الأمريكي القادم في انتخابات نوفمبر 2020، وربما لهذا السبب استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «مارك زوكربيرج» صاحب فيسبوك في البيت الأبيض على مدى ليلتين متتاليتين، الأمر الذي فتح واسعا الباب للتكهنات بما يمكن أن يقوم به الرجل من ترويج لحملة ترامب الدعائية الخاصة بإعادة انتخابه رئيسا مرة ثانية.

فيرجسون صاحب الرؤية المتضمنة في كتبه عن الحضارة الإنسانية يقدم لنا سر الوصفة التي كفلت للحضارة الغربية أن تسيطر على الشرق، ليس الشرق الأوسط بكل تأكيد وتحديد، ولكن الشرق بعموم معانيه ومبانيه، ومنه الشرق الأدنى الأسيوي، قبل أن يستيقظ التنين الصيني مؤخرا.

يذهب المؤرخون من شيشرون إلى شبنجلر مرورا بهوارد زين وصولا إلى نايجل هاملتون، إلى أن التاريخ في غالبه هرمي، فهو عن الأباطرة والرؤساء، ورؤساء الوزارات وجنرالات الميدان. انه تاريخ عن الدول والجيوش والمؤسسات، عن الأوامر المملاة من أعلى، وحتى التاريخ من اسفل غالبا عن النقابات والأحزاب العمالية، ويكتب التاريخ هكذا لان المؤسسات الهرمية هي التي تنشئ الأرشيفات التي يعتمد عليها المؤرخون.

هل هناك حلقة ضائعة في هذا السياق؟

حكما هناك شق ضائع يتعلق بالشبكات الاجتماعية غير الرسمية التي لم توثق بشكل جيد، والتي هي مصادر السلطة الحقيقية ومحركات التغيير.

هل يتجاوز فيرجسون الحقيقة أم أن ما يتوافر له من أوراق كمؤرخ تجعله قادر على استشراف ما لا نراه في يومنا الاعتيادي المشحون بمشاغبات الحياة وحيث الغبار يكاد يداري أو يواري الحقائق الكامنة تحت جلد الإنسانية من أزمنة البشر الأولى وحتى الساعة؟

الشاهد أن الكثيرين يعتقدون وحتى الساعة أن مسألة الشبكات، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية، إنما قد جادت بها عقود القرن العشرين وليس اكثر من ذلك.

غير أن فيرجسون وعبر صفحات مؤلفه التي تتجاوز الستمائة صفحة يكشف لنا عما هو غير ذلك، انه يجادل بان الشبكات كانت معنا دوما، بدءا من بنية الدماغ إلى السلسلة الغذائية، ومن شجرة العائلة إلى البنائين الأحرار، فعلى مر التاريخ بينما ادعت الأنظمة الهرمية الساكنة في الأبراج العالية أنها تحكمنا، كانت السلطة الحقيقية كامنة في الأسفل، في الشبكات، في ساحة البلدة، ولان الشبكات تميل إلى الابتكار والتجديد، فمن خلالها تنتشر الأفكار بطريقة فيروسية معدية، وما ينغمس منظرو المؤامرة في تخيله عن هذه الشبكات لا يعني أنها غير حقيقية.

إلى أي مدى يمكن أن نصدق فيرجسون أو نشكك في حديثه؟

عادة ما ينقسم عالمنا إلى معسكرين، جماعة اللون الأبيض، في مقابل مؤيدي أو محبي اللون الأسود، وهذا تقسيم مانوي لا يمكن قبوله في القرن الحادي والعشرين.

في الإطار عينه لا يمكن القبول بفكر «صموئيل هنتنجتون» أن العالم مقسم تقسيما حضاريا ثقافيا دينيا مذهبي ما بين الشرق والغرب، هذا أمر لا يستقيم، ففي زمن العولمة لم يصبح هناك شرق بمعناه الواسع ولا غرب بمؤاده المطلق، وإنما تداخل الجميع عبر كرة أرضية يمكن بوسائل الانتقال الحديثة أن تجعل الجميع في سياق وإطار واحد صباح مساء كل يوم.

لقد وصل الشقاق الفراق اليوم حول من يحكم العالم إلى تعميق هوة الخلاف في الغرب حول تطور المشهد الليبرالي الرأسمالي لا سيما توجه ما يعرف بالنيوليبرالية، وما بين الخوف من المؤامرة وبعض من الحقيقة التي لا ينكرها فيرجسون توجد الحقيقة التي يصفها المثل اللاتيني بانها دائما في المنتصف.

هناك من يذهب إلى أن العالم لا سيما على الصعيد الاقتصادي تقوده بعض من تلك الشبكات التي يحاجج بأخبارها فيرجسون من عينة جماعة الروتشيلديين أو أصحاب الدرع الأحمر الذين راكموا الثروات في أوروبا في القرون الوسطى، بل إن بعض الأصوات تذهب إلى أن تلك الجماعة عينها هي من رشح عنها مؤتمر «بيلدربيرغ» والذي يعد ملتقى لقادة العالم من السياسيين والاقتصاديين ورجالات الاستخبارات، وكأني به مجلس إدارة العالم وفي هذا شيء من الحقيقة ما من شك وبدون إنكار أو مراوغة.... غير أن الحقيقة كذلك تبقى في المنتصف.

خذ إليك الصراع الدائر في أمريكا اليوم حول الرأسمالية ومن يوجه بوصلة العالم وما هو المصير الذي ينتظر هذا النسق الاقتصادي الذي يهيمن على العالم بنوع خاص منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبنوع اكثر تخصصا منذ ظهور نظام «بريتون وودز» الذي يحرك سفن العالم عبر البحار.

افضل من يؤكد لنا أن فيرجسون على حق حين يدعونا للتأمل العميق عمن يقف وراء العالم ويحرك مقاديره، البروفيسور «يورغ سورنسن»، أستاذ العلوم السياسية ونظم الحكم في جامعة «آرهوس» الدنماركية والذي بقي ضيفا على الوحدة البحثية الخاصة بـ «الصراعات عبر الوطنية والمؤسسات الدولية»، وصاحب الكتاب الأشهر «افضل أزمنة الليبرالية...النظام والاضطراب في القرن الجديد».

أمام الشكوك القائمة والقادمة حول النظام الاقتصادي العالمي الحالي والذي لم يعد احد يثق في مقدرته على الاستمرار لعقود طويلة أخرى يلفت «سورنسن» في مؤلفه الأحدث «إعادة النظر في النظام الدولي الجديد»، إلى أن هناك شروط ثلاثة تحكم تطورات النظام الليبرالي، وقد تكون هي ما يقرر مستقبله: هشاشة جميع الدول، المتخلفة والمتقدمة على حد سواء، تراجع خطر الحرب بين الدول مع تصاعد الحرب داخل الدول، وهو تصاعد يرتبط بظاهرة الإرهاب، وأخيرا بنية القوة في النظام الراهن، وتمحورها حول دور الولايات المتحدة الأمريكية التي لابد لقوتها المادية من وجه اجتماعي يتمثل في تخليق وإدامة نظام مشروع.

يستدعي حديث «سورنسن» مزيد من التساؤلات عن الأيادي غير واضحة المعالم لا سيما في الداخل الأمريكي عن الشبكات والأبراج، الشبكات التي تنسج خيوطها، وتلف خطوطها كالأخطبوط من حول اكبر قوة فاعلة ومؤثرة في العالم المعاصر، والتي لا يتوقع المرء أن تختفي عما قريب من على سطح الأحداث، بل ستبقى لعقود قادمة، وفي أسوأ الأحوال ستضحى كما يقال باللغة اللاتينية Primus inter pares أي الأول بين متساويين.

الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأكبر التي ينبغي لقارئ عمل فيرجسون الأخير أن يطبق سطوره وفصوله عليها، فلا تزال هناك أسرار عديدة عن الشبكات التي تحكم مجال عملها، ناهيك عن سكان الأبراج الذين يراقبون كل ما يجري من مواقعهم العاجية في الداخل الأمريكي، وعلى غير المصدق أن يقرأ سلسلة الكتاب التي ألفها نائب وزير الدفاع الكندي في زمن الحرب العالمية الثانية «وليام جاي كار»، وفي مقدمتها كتاب «الضباب الأحمر فوق أمريكا»، وفيه يتحدث عن الشبكات التي تأسست من عند جورج واشنطن وبنجامين فرانكلين، ورفاقهم من البنائين الأحرار، وصولا إلى جماعة التنويرين التي قام عليها الجنرال «البرت بايك»، والراهب اليسوعي المشلوح «وايز هاوبت»، والدور السري لهما في بلورة حقيقة الأخ الأكبر والأذان المترصدة لكل شاردة وواردة في داخل البلاد، ولاحقا أضحت خارجها.

يكاد فيرجسون في عمله الأخير هذا أن يشاغب العقول حول مستقبل البشرية وهل الأفضل أن تكون عضوا في شبكة تمنحك تأثيرا، أم في نظام هرمي يمنحك سلطة؟ وأيهما افضل وصفا لموقعك؟

ما ذكره فيرجسون في عمله المثير هذا يمكن أن يكون بشكل أو بآخر رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لكتاب الأمريكي «دافيد ج. روثكوبف»، الباحث الزائر في معهد كارنيجي للسلام الدولي «الطبقة الخارقة...نخبة التسلط العالمي وأي عالم نبني»، والذي يشير إلى أن نحو ستة آلاف شخص من بين سبعة مليارات نسمة على سطح الكرة الأرضية يتحكمون بمصائر ستة مليارات نسمة، ويتسلطون على الكرة الأرضية ببشرها وثرواتها. يوقدون حربا هنا وحربا هناك، يغتالون زعيما، يسطون على مناجم وآبار نفط، من دون أن يحاسبوا أو يحاكموا.. أليست هذه هي الشبكات التي يكلمنا عنها فرجسون؟

إنها بالضبط عينها، حيث تلغى المفاهيم السائدة حول فاعلية رؤساء الدول وأعضاء البرلمانات ومجالس الشيوخ، هؤلاء الذين بات اختيارهم شكلي وتعيينهم حبر على ورق في حين تبقى السلطة الحقيقية للطبقة الخارقة أو لجماعة الشبكات والأبراج.

لم يعد العالم بسيط بل مركب ومعقد فانظر ماذا ترى؟