1446201
1446201
الرئيسية

طموحات كبيرة وآمال عريضة من أجل عمان جديدة

26 فبراير 2020
26 فبراير 2020

«عقيدة» السلطان و«رؤيته» -

عاصم الشيدي -

استمعت عُمان كلها مساء الأحد الماضي إلى الخطاب التاريخي الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - والموجه في مجمله إلى الداخل العماني. وهذا الخطاب هو الأول لجلالة السلطان هيثم إذا ما اعتبرنا أن خطاب التنصيب/‏‏ العرش الذي ألقاه بعد أداء اليمين الدستورية صباح 11 يناير الماضي كان خطابا هدفه الأساسي في تلك اللحظة التاريخية من عمر الوطن توجيه رسالة طمأنينة للداخل والخارج مفادها أن عُمان باقية على السياسة نفسها، ومتمسكة بكل التزاماتها الدولية وأن سلاسة انتقال السلطة يصاحبها أيضا بناء على الأسس المتينة التي أقامتها عُمان في مختلف المجالات خلال العقود الخمسة الماضية.

وتكمن الأهمية التاريخية لخطاب الأحد في كون جلالته رسم فيه ملامح المرحلة القادمة وخطوطها العريضة، أو بعبارة أخرى كان خطة عمله القادمة والإجراءات التي بها سينقل عمان «إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم» وفق ما جاء نصا في الخطاب. ويستخدم الغرب في العادة وصفا لمثل هذه الخطابات بأنها «عقيدة الرئيس» ولذلك يمكن أن نقول إن هذا الخطاب هو «عقيدة السلطان هيثم» دون أن نعني المعنى الاصطلاحي للفظة «عقيدة» ولكن المعنى اللغوي. ومعروف أن كل زعماء العالم يكون لهم خطاب استثنائي في بداية عهدهم يوضحون فيه الأفكار والمنطلقات التي سيسيرون عليها في إدارتهم لدولهم.. ونحن نستطيع الآن أن نستذكر الخطاب التاريخي للسلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، الذي وجهه للشعب العماني مساء يوم 9 أغسطس من عام 1970 الذي حدد فيه معالم عهده الزاهر وسار على أسسه خلال العقود اللاحقة.

إذن ماذا يمكن أن نقرأ في هذا الخطاب التاريخي؟ وما أهم معالم العقيدة السياسية والإدارية التي سيسير عليها جلالة السلطان هيثم المعظم؟

وهل تغير مستوى الخطاب وفق ما تمليه المرحلة؟ وما المتغيرات التي تفرضها المرحلة لهذا التغيير في الداخل العماني؟ وإلى إي مدى سيكون ذلك ممكنا في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها السلطنة في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار النفط وتدخل الصين مرحلة من الركود الاقتصادي؟

أسئلة كثيرة علينا أن نجيب عنها ونحن نقرأ الخطاب لأننا سنكون شركاء في التنفيذ وفق ما طالبنا به الخطاب، ووفق العهد الذي دعانا جلالة السلطان هيثم المعظم أن نقطعه على أنفسنا أمام الله حين قال: «وإننا إذ نعاهد الله عز وجل، على أن نكرس حياتنا من أجل عُمان وأبناء عُمان؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة، ونهضتها المباركة، فإننا لندعوكم لأن تعاهدوا الله على ذلك».

كان جلالة السلطان واضحا جدا في خطابه، وخاطب الشعب العماني بما يدور في أذهانهم وكان واضحا في الخطاب أنه قريب من أفكار الناس ومن أطروحاتهم ويعرف المجتمع وما يدور فيه، ولم يتجاوز الإشارة إلى التحديات التي تفرضها الظروف الدولية المحيطة التي نتأثر بها لكنه أشار إلى ثقته في العمانيين في التعامل مع متطلبات المرحلة «نحن لعلى يقين تام وثقة مطلقة بقدرتكم على التعامل مع مقتضيات هذه المرحلة والمراحل التي تليها بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذة وحكمة بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة».

وإذا ما دخلنا إلى عمق الخطاب سنجد أن جلالة السلطان قد مهدّ «للعقيدة» التي يريد أن يتحدث عنها بتمهيدين اثنين:

الأول حينما تحدث عن المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيب الله ثراه- والجهود التي بذلها في بناء الدولة العصرية خلال العقود الخمسة الماضية ووصفه بالقول إنه «أعز رجاله، يعني الوطن، وباعث نهضته الحديثة ومؤسس دولته المعاصرة، رجل الحكمة والسلام، ورمز التسامح والوئام». وهذا تمهيد مهم جدا يدل على وفاء السلطان للسلطان، ووفاء رجل ينظر نحو المستقبل للجانب التأسيسي الذي وقفت عليه عمان، والتضحيات التي قدمت من أجل أن تكون عمان كما نعيشها اليوم. والتمهيد الأول قادنا للتمهيد الثاني وهو تمهيد مهم جدا ومفرح أيضا.

فالسلطان- أعزه الله- تحدث عن تاريخ عمان، وعراقتها ودورها المؤثر في التاريخ. وقال جلالته إن العالم «عرف عمان عبر تاريخها العريق والمشرق كيانا حضاريا فاعلا ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها واستتباب الأمن والسلام فيها» وقد تناوبت «الأجيال على إعلاء رايتها» و«تحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم حاملة إرثا عظيما وغايات سامية تبني ولا تهدم تقرّب ولا تبعد» وهو ما أكد جلالته أنه سيحرص على استمراره «معكم وبكم» يعني شعبه الوفي؛ «لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية».

وتكمن أهمية التمهيد الثاني في أن جلالة السلطان أراد قبل أن يتحدث عن الجزء الأساسي في الخطاب مما أسميناه «عقيدة» المرحلة، أن يؤكد أنه يقف وشعبه على أرض صلبة وقوية هي أرض عمان بكل تاريخها العريق، وأنهم جميعا سليلو حضارة عريقة قائمة على مرتكزات ثابتة وراسخة ولذلك لا خوف عليهم حينما ينطلقون نحو المستقبل.

وكان التمهيدان مهمين جدا للدخول إلى للنص الأساسي من الخطاب؛ لأن عمان والسلطان الراحل بالنسبة للعمانيين أمر «مقدس» جدا، حتى أن عمان الحديثة بالنسبة لكل الأجيال الحالية ارتبطت بالسلطان الراحل، والبدء بوضعهما في المكانة التي تليق بهما في الخطاب مما سهل طريق الخطاب للتسلل إلى قلوبهم وعقولهم سريعا؛ ولذلك استقبل الجميع الخطاب بترحاب كبير جدا وتفاعلوا معه وأكدوا أنه يلبي طموحاتهم وتطلعاتهم لعُمان المستقبل.

وساهم في ذلك التقبل أن جلالة السلطان هيثم خاطب العمانيين في «عقيدة» خطابه بما يدور في أذهانهم، وبما يحلمون به لعمانهم التي يحبون ويعشقون. ويمكن أن نقول إن من أسباب نجاح الخطاب أن أطروحاته كانت قارئة بعمق للأسئلة التي يطرحها المواطنون وبكل أطيافهم.

وإذا تجاوزنا التمهيدين وأردنا أن نضع عنوانا لمتن الخطاب فإننا لن نستطيع الخروج عن «رؤية عمان 2040» حيث كان جلالة السلطان هيثم بن طارق رئيسا للجنة الرئيسية للرؤية التي وضعت تصورها لعمان حتى عام 2040 بمشاركة شعبية واسعة. ولذلك فإن خطاب السلطان «وعقيدته» الإدارية والسياسية في الداخل تحددت بمحددات الرؤية وهذا يعطيها بعدا شعبيا مهما جدا.

ولذلك كان واضحا جدا أن تبدأ أولى الطروحات في الخطاب للحديث عن الشباب ودورهم في بناء الأمم ومكانتهم في عمان المستقبل «الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب... وسواعدها التي تبني ... وهم حاضر الأمة ومستقبلها» وفق ما جاء في نص الخطاب، وفيه أيضا تأكيد من جلالة السلطان بأنه «سوف نحرص على الاستماع لهم وتلمس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم» ويمكن أن نقرأ مؤشرا مهما في هذا الطرح مفاده أن مرتكزات سياسة السلطان ستتكئ على قدرات الشباب وتنطلق منها وأن أفكارهم هي التي ستضع روزنامة العمل القادمة. وهذا يرتبط كثيرا بالطرح الآخر الذي أكد فيه جلالة السلطان على الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته و«توفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار» وأن كل ذلك سيكون «في سلم أولوياتنا الوطنية وسنمده بكافة أسباب التمكين».

لكن للشباب أهداف مستقبلية كبيرة، وطموحاتهم متطورة ولا تقف عند حد من الحدود، وهذا كان مفهوما جدا في فكر جلالة السلطان هيثم وهو يوجه حديثه لهم في خطابهم ولذلك تحدث مباشرة عن توفير الأسباب الداعمة لتحقيق الأهداف المستقبلية. فمن الصعب أن نحقق أهدافنا بأدوات لا تتناسب مع المرحلة، وبفكر لا يتوافق معها.

ووضع جلالته عدة أدوات جديدة وحديثة وهي من شأنها أن تنقل عمان نقلة أخرى لمرحلة أخرى تماما. ومن بينها وربما أهمها إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وهذه الفكرة تحدث عنها جلالة السلطان المعظم حتى قبل تنصيبه سلطانا على عمان حينما كان يخاطب الشباب في إحدى جلسات النقاش المنعقدة ضمن مؤتمر الرؤية، وهي في الحقيقة طموح شعبي واسع.

ومن بين تلك الأدوات أيضا تحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل لإعلاء قيمته ومبادئه وتبني أحداث أساليبه إضافة إلى تبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة.

وفي الحقيقة هذه الإجراءات هي جوهر ما يطالب به المواطنون من أجل أن تكون عمان قادرة على دخول عصر الثورة الصناعية الرابعة وتجاوز عصر التحديات الإدارية. وهذا كله من أجل من «المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها» وكلمة الرؤية هنا تشير إلى رؤيتين ولكن مصدرهما واحد: رؤية السلطان هيثم و«الرؤية 2040».

ومن تلك الأدوات التي بها ستنتقل عمان للمستقبل مراجعة أعمال الشركات الحكومية مراجعة شاملة لتطوير أدائها ورفع كفاءتها وتمكينها من الإسهام الفاعل في المنظومة الاقتصادية وفق ما جاء في الخطاب بالنص، وأيضا آليات صنع القرار الحكومي بهدف تطويرها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا. ومن بينها أيضا توجيه «مواردنا المالية التوجيه الأمثل لخفض المديونية وزيادة الدخل» وهذا أحد أكبر التحديات التي تواجه عمان وستواجهها في السنوات القادمة ويتطلب هذا كما قال الخطاب أيضا «توجيه الحكومة لانتهاج إدارة كفؤة وفاعلة تضع تحقيق التوازن المالي وتعزيز التنوع الاقتصادي» لاستدامة الاقتصاد الوطني. وهذه من بين التحديات الكبرى التي يمكن أن تواجه المرحلة ولكن مع الإصرار والعزيمة والرؤية الواضحة يمكن لعمان ذات الموارد المتنوعة أن تتجاوز هذا التحدي، ولكن هذا كله يحتاج أن نتعالى جميعا فوق المصالح الشخصية ونضع المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار آخر.

وإذا كنا نتحدث عن التحديات فمن بين التحديات التي تواجه عُمان في مرحلتها الحالية والقادمة موضوع الباحثين عن عمل، وهذا الأمر لم يغفله الخطاب حيث أكد جلالته في رؤيته/‏‏‏ عقيدته أنه سيولي «تطوير إطار وطني شامل للتشغيل» معتبرا ذلك ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني وهذا يتطلب وفق رؤية جلالة السلطان في خطابه استمرار تحسين بيئة العمل في القطاعين العام والخاص ومراجعة نظم التوظيف في القطاع الحكومي وتطويرها، وتبني نظم وسياسات عمل جديدة تمنح الحكومة المرونة اللازمة والقدرة لتحقيق الاستفادة القصوى من الموارد والخبرات والكفاءات الوطنية، بحسب نص الخطاب.

وكل هذه تحديات حقيقية، وتحديات عميقة لا نواجهها وحدنا ولكن تواجهها دول تتكئ على اقتصاديات ضخمة، ولذلك علينا أن نعي تماما أن هذه التحديات لا يمكن أن تذلل بين يوم وليلة، وسنحتاج إلى عدة سنوات، إذا بقينا بالعزم نفسه والإرادة، قبل أن نتجاوزها وتصبح من الماضي.

ولذلك كان واضحا حينما انتقل الخطاب من هذا الطرح للقول «إن بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع، ولا يستثنى أحد من القيام بدوره فيها، كل في مجاله وبقدر استطاعته» وحينما أشار جلالته أيضا بالقول «تأسست عمان وترسخ وجودها الحضاري بتضحيات أبنائها، وبذلهم الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على عزتها ومنعتها، وإخلاصهم لأداء واجباتهم الوطنية، وإعلائهم لمصالح الوطن على المصالح الشخصية». لأن جلالته يدرك حجم الجهد الذي سنحتاجه من أجل أن تصبح عمان كما نريد ونحلم.. وأن برنامج عمله يحتاج إلى تضحيات كبيرة منا جميعا.

ولم يفرق جلالة السلطان في هذا الواجب بين المواطنين والمقيمين فهم في الواجب سواء وهم كما قال في خطابه «يعيشون بفضل الله في ظل دولة القانون والمؤسسات، دولة تقوم على مبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، قوامها العدل وكرامة الأفراد وحقوقهم وحرياتهم فيها مصانة بما في ذلك حرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة».

لكنه عاد واعتبر أن شراكة المواطنين في صناعة مستقبل عمان «دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني» ولم يفرق في ذلك بين الرجل والمرأة بل اعتبر أن المرأة «تتمتع بحقوقها التي كفلها القانون وأن تعمل مع الرجل جنبًا إلى جنب في مختلف المجالات خدمة لوطنها ومجتمعها».

وبعد أن تحدث جلالته عن طموحاته ورؤيته لمستقبل عمان والآليات التي على الدولة اتخاذها من أجل ضمان نجاح التحول قال أعزه الله «إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة». وهذه بشارة بدخول عمان مرحلة جديدة من مراحل نهضتها الحديثة. فنصف قرن من الزمان أكملت فيها عمان كل بناها التحتية مهدت الطريق للمرحلة القادمة.

ولذلك وجدنا جلالة السلطان، أعزه الله، يعاهد شعبه بعد ذلك ويقول «إننا إذ نعاهد الله عز وجل على أن نكرس حياتنا من أجل عمان وأبناء عمان كي تستمر مسيرتها الظافرة ونهضتها المباركة» ويدعو العمانيين للعهد نفسه «فإننا ندعوكم أن تعاهدوا الله على ذلك».

إذن لم يكن الخطاب عاديا أو روتينيا بل كان خطاب «عقيدة» وخطاب «رؤية» وخطاب خطة عمل واضحة المعالم لا تنفذها الحكومة وحدها ولكن ينفذها كل العمانيين والمقيمين على هذه الأرض الطيبة.

ومع أن الطرح كان واضحا جدا إلا أنه حمل في خطابه المختلف ظلالا لا بد أن تكون واضحة أمامنا ومن بينها أن المرحلة القادمة مرحلة محاسبة، ومراجعة، ومكاشفة ومرحلة مصلحة عمان قبل أي مصلحة فردية.

وهذه فرصة حقيقية لكل العمانيين الذين يتحدثون عن المستقبل أن يقفوا وقفة صادقة مع أنفسهم أولا ومع سلطانهم من أجل المستقبل الذي يريدونه لعمان وبالتالي لأنفسهم وأبنائهم والأجيال القادمة.

ولا بد أن نعاهد الله كما دعانا جلالة السلطان أن نكون معه بناء على المعطيات التي طرحها في خطاب «العقيدة» هذا. ونقول «لك منا العهد والولاء».

[email protected] -