عمان اليوم

قراءة كاشفة في عنوان المرحلة القادمة

26 فبراير 2020
26 فبراير 2020

د. مجدي العفيفي -

يحمل الخطاب السلطاني الثاني لجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- جينات المرحلة القادمة التي تبشر بها اللحظة الراهنة بكل تجلياتها، وتخط السطور الأولى وتفتح الطريق لمواصلة السير والمسيرة، بتأكيد ثوابتها وتحسب متغيراتها، إذ أن الرؤية العمانية تتمايز بأنها لا تحبس نفسها في غرفة القديم وفي ذات الوقت لا تهرول في شارع العصر، بل تعتمد الخطوات الوئيدة في المنظور العام، ومن ثم تظل موضوعية الخطاب العماني كليته هي آية واقعيته، ويبقى دائما أحد أهم المرجعيات العرفية والمعرفية والجمالية والأخلاقية للمجتمع، حيث يمثل أرقى أشكال التعبير عن الرؤية العمانية، وأرفع مستويات التصوير للخطاب العماني، بل هو المعادل الموضوعي للمشهد العماني في عموميته وخصوصيته.ثمة مجموعة من القواسم المشتركة تتضافر في هذا ‮«الخطاب الأول‮» ويتجاور معه «خطاب التنصيب‮» كعلامات دالة تعمل كنقاط مرجعية ثابتة لأفكار مركزية، تشف عنها بنية الخطاب من خلال الزمان والمكان والإنسان كعوامل ثلاثة حاكمة في تطور المنظور الفكري، وهذه القواسم المشتركة تظهرها الثوابت بحضورها الدائم في الخطاب العماني.

هذا الخطاب بلغته السلسة الواضحة التي تبتعد عن التأويل، وببلاغته السياسية المكثفة، وبكونه كتلة سردية في شؤون الحكم في عهده الجديد، إنما يفكر بجلاء وببينات وعلى هدى لنص المرحلة القادمة، بتعقيداتها العصرية في عالم يتسم بأن متغيراته أكثر من ثوابته وبتحولاتها المنتظرة داخليا وخارجيا، وباستشرافاتها للآتي على ضوء الآني، لذلك أضاء الخطاب مساحة واسعة في هذا السياق بقوله: ‮«إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله‮».

ثمة خاصية معبرة تضيء محيط نص الخطاب وهي التأكيد على قيمة تسلسل الأجيال كظاهرة جلية في المنظور العماني، مع الأخذ في الاعتبار التنوع في الرأي والرؤية، لذلك أكد جلالته على استلهام ومضة العرفان حين وصف السلطان قابوس، رحمه الله، بأنه أعز رجال الوطن وباعث نهضته الحديثة ومؤسس دولته المعاصرة رجل الحكمة والسلام ورمز التسامح والوئام، وأن إنجازاته العظيمة ومآثره الخالدة ستبقى مفاخر وطنية لعمان الغالية،حاضرا ومستقبلا ومصدر إلهام للأجيال القادمة يستلهمون منها الإخلاص والتفاني في خدمة الوطن والحفاظ على قيمه ومكتسباته وصون أمنه واستقراره والإسهام في نمائه وازدهاره.

يكشف الخطاب أن جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- هو رجل التحديات، وهي وإن كانت كثيرة وصعبة، إلا أن إدراك ذلك إنما هو قوة وقدرة ومقدرة في آن واحد، وهو إدراك نابع من منظور شامل لمجريات الأمور ‮« إننا نقف اليوم، بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين على أعتاب مرحلة مهمة من مراحل التنمية والبناء في عمان... وإننا لندرك جميعا التحديات التي تمليها الظروف الدولية الراهنة، وتأثيراتها على المنطقة وعلينا، كوننا جزءا حيا من هذا العالم، نتفاعل معه، فنؤثر فيه ونتأثر به‮».

ولأنه يستحيل على أي دولة أن تتقدم إلى الخارج ما لم تكن مستقرة مزدهرة داخليا - كما تشير الأدبيات السياسية - فإن جلالة السلطان قد حرص في فضاءات الخطاب على شحذ همم المواطنين بالإشارة إلى دورهم الخلاق ‮«شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسية من دعامات العمل الوطني ... إن بناء الأمم وتطورها مسؤولية عامة يلتزم بها الجميع ولا يُستثنى أحد من القيام بدوره فيها، كل في مجاله وبقدر استطاعته ‮» ولعل من أهم أدوات القدرة على مواجهة التحديات يكمن في الإرادة الإنسانية والإدارة السياسية، وهما الجناحان القويان لتحقيق ما هو منشود سواء على المستوى الفردي أم على الصعيد الجمعي لذلك جاء في الخطاب هذه الومضة المضيئة بقوة‮« إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعينِنَا المصلحة العليا للوطن، مسخرين له كافة أسباب الدعم والتمكين‮».

تتردد في ثنايا الخطاب تعبيرات ذات دلالات ثمينة ومحددة من قبيل : استشعار حجم الأمانة.. إشعار المواطن بدوره... المشاركة الوطنية .. وشراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها .. لهي تشي باحتواء المشهد الداخلي، لذلك اتخذ الخطاب من هذا المشهد مساحة ملحوظة، وتحقق فيه مدى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والإشارة الدالة على السعي الكامل إلى تضييق المسافة بين التصورات والتصديقات.. وكانت العلامات المنيرة في هذا السياق الداخلي منيرة ومطمئنة ومستمرة في عطاءاتها... تحديث الجهاز الإداري للدولة .. إن الشباب كثروة أممية لا تنضب إذا ما تم تلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم.. قطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته.. قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع ريادة الأعمال.. القطاعات المدنية، الإنتاجية منها والخدمية.

وحين يشير إلى المشاركة الوطنية في تحمل المسؤولية فإنه يضرب القدوة ويقدم المثل من ذاته أولا، في صورة تتطلب الالتحام بين القيادة والشعب، فجلالته حين يعلن للرأي العام العماني وإلى العالم عهده مع الله ‮«على أن نكرس حياتنا من أجلِ عُمان وأبناء عُمان ؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة، ونهضتها المباركة‮» فإنه يدعو المواطنين لأن يعاهدوا الله على ذلك« ونحن على يقين تام، وثقة مطلقةٍ بقدرتِكم على التعامل مع مقتضيات هذه المرحلة والمراحل التي تليها، بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذةٍ وحكمةٍ بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة‮».

ولقد حق لجلالة السلطان أن يعلن للعالم أجمع أن من أسباب الاستقرار العام في عمان ومن مسببات الاعتزاز بالدولة العمانية بما فيها ومن فيها، ما تجلت بها عبارة جلالته ذات البعد الحضاري حاضرا وحضارة، وتشكيلا ودلالة «أن المواطنين والمقيمين على أرض عُمان العزيزة.. يعيشون بفضل الله في ظل دولة القانون والمؤسسات، دولة تقوم على مبادئ الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، قوامها العدل، كرامة الأفراد وحقوقهم وحرياتهم فيها مصانة، بما في ذلك حرية التعبير التي كفلها النظام الأساسي للدولة.

جاءت هذه البارقة ذات المعاني العظيمة تأكيدا جديدا ومستمرا وذا ديمومة اجتماعية ومجتمعية على أن العالم يعرف عمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، كيانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، هذه الرسالة الموجهة إلى العالم حرصت سطورها على استمرارية إحدى ثوابت الدولة العمانية العصرية ‮«أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية‮».

ولأن العالم خاصة في هذه الحقبة من العصر لا يقيم وزنًا إلا للأقوياء، ولأن المؤسسة العسكرية العمانية تعد من الجيوش القوية في المنطقة كما شهد لها خبراء كثيرون في العالم، فقد جاءت نقطة تنوير محملة بالدلالة كرسالة عمانية قوية، حين سجل جلالة السلطان بكل فخر واعتزاز كلمة ثناء وعرفان لجميع العاملين بقواتِنا المسلحة الباسلة في القطاعات العسكرية والأمنية، القائمين على حماية هذا الوطن العزيز، والذود عن حياضه، والدفاع عن مكتسباته، مؤكدين على رعايتنا لهم، واهتمامنا بهم ؛ لتبقى هذه القطاعات الحصن الحصين، والدرع المكين في الذود عن كل شبر من تراب الوطن العزيز من أقصاه إلى أقصاه‮».

هذا الاستدعاء المبدئي للمؤسسة العسكرية يكشف مدى الاعتزاز وزهوة الفخر بالعسكرية العمانية فكرًا واستراتيجية، وإعدادًا واستعدادًا، من أجل ذلك وأكثر من ذلك، فقد اعتزمت استراتيجية النهضة منذ بواكيرها على تحويل الجيش العماني إلى جيش عصري قادر على تلبية نداء الوطن والوفاء بالمهام الموكولة إليه. في الحرب حيث ينهض بجدارة لحماية الوطن والذود عن حياضه، وفي السلم حيث يساهم في استراتيجية التنمية التي يعد المواطن محورها الأهم.

إن هـــــــــــذا الخطاب إنما هو عنوان كبير يفكر لنص المرحلة القادمة .. ؟!.

وسلام على عمان بما فيها ومن فيها..

وسلام قولا من رب رحيم..